الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
فعطف فنضارب بالجزم على كان لأنه مجزوم، ولو لم يكن مجزوما لقال: فنضارب، بالنصب. وقد تزاد على إذا ما تأكيدا، فيجزم بها أيضا، ومنه قول الفرزدق: قال سيبويه: والجيد ما قال كعب بن زهير: يعني أن الجيد ألا يجزم بإذا، كما لم يجزم في هذا البيت. وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان، لأنها تضمنت جثة. وهذا مردود، لأن المعنى خرجت فإذا حضور زيد، فإنما تضمنت المصدر كما يقتضيه سائر ظروف الزمان، ومنه قولهم: اليوم خمر وغدا أمر فمعناه وجود خمر ووقوع أمر. قوله: {قيل} من القول وأصله قول، نقلت كسرة الواو إلى القاف فانقلبت الواو ياء. ويجوز: {قيل لهم} بإدغام اللام في اللام وجاز الجمع بين ساكنين، لأن الياء حرف مد ولين. قال الأخفش: ويجوز {قيل} بضم القاف والياء.وقال الكسائي: وبجوز إشمام القاف الضم ليدل على أنه لما لم يسم فاعله، وهي لغة قيس وكذلك جئ وغيض وحيل وسيق وسيء وسيئت. وكذلك روى هشام عن ابن عباس، ورويس عن يعقوب. وأشم منها نافع سيئ وسيئت خاصة. وزاد ابن ذكوان: حيل وسيق، وكسر الباقون في الجميع. فأما هذيل وبنو دبير من أسد وبني فقعس فيقولون: قول بواو ساكنة. قوله: {لا تُفْسِدُوا} {لا} نهى. والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشيء يفسد فسادا وفسودا وهو فاسد وفسيد. والمعنى في الآية: لا تفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الايمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن.وقيل: كانت الأرض قبل أن يبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها الفساد، ويفعل فيها بالمعاصي، فلما بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتفع الفساد وصلحت الأرض. فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، كما قال في آية أخرى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} [الأعراف: 56]. قوله: {فِي الْأَرْضِ} الأرض مؤنثة، وهي اسم جنس، وكان حق الواحدة منها أن يقال أرضة، ولكنهم لم يقولوا. والجمع أرضات، لأنهم قد يجمعون المؤنث الذي ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كقولهم: عرسات. ثم قالوا أرضون فجمعوا بالواو والنون، والمؤنث لا يجمع بالواو والنون إلا أن يكون منقوصا كثبة وظبة، ولكنهم جعلوا الواو والنون عوضا من حذفهم الألف والتاء وتركوا فتحة الراء على حالها، وربما سكنت. وقد تجمع على أروض. وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: أرض وآراض، كما قالوا: أهل وآهال. والأراضي أيضا على غير قياس، كأنهم جمعوا أرضا. وكل ما سفل فهو أرض. وأرض أريضة، أي زكية بينة الاراضة. وقد أرضت بالضم، أي زكت. قال أبو عمرو: نزلنا أرضا أريضة، أي معجبة للعين، ويقال: لا أرض لك، كما يقال: لا أم لك. والأرض: أسفل قوائم الدابة، قال حميد يصف فرسا: أي أثر والأرض: النفضة والرعدة. روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد الله بن الحارث قال: زلزلت الأرض بالبصرة، فقال ابن عباس: والله ما أدري! أزلزلت الأرض أم بي أرض؟ أي أم بي رعدة، وقال ذو الرمة يصف صائدا: والأرض: الزكام. وقد آرضه الله إيراضا، أي أزكمه فهو مأروض. وفسيل مستأرض، وودية مستأرضة بكسر الراء وهو أن يكون له عرق في الأرض، فأما إذا نبت على جذع النخل فهو الراكب. والاراض بالكسر: بساط ضخم من صوف أو وبر. ورجل أريض، أي متواضع خليق للخير. قال الأصمعي يقال: هو آرضهم أن يفعل ذلك، أي أخلقهم. وشئ عريض أريض إتباع له، وبعضهم يفرده ويقول: جدي أريض أي سمين. قوله: {نَحْنُ} أصل {نَحْنُ} نحن قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء، قاله هشام بن معاوية النحوي.وقال الزجاج: {نَحْنُ} لجماعة، ومن علامة الجماعة الواو، والضمة من جنس الواو، فلما اضطروا إلى حركة {نَحْنُ} لالتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة. قال: لهذا ضموا واو الجمع في قوله عز وجل: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ} [البقرة: 16] وقال محمد بن يزيد: {نَحْنُ} مثل قبل وبعد، لأنها متعلقة بالأخبار عن اثنين وأكثر، ف أنا للواحد نحن للتثنية والجمع، وقد يخبر به المتكلم عن نفسه في قوله: نحن قمنا، قال الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32]. والمؤنث في هذا إذا كانت متكلمة بمنزلة المذكر، تقول المرأة: قمت وذهبت، وقمنا وذهبنا، وأنا فعلت ذاك، ونحن فعلنا. هذا كلام العرب فأعلم.قوله تعالى: {مُصْلِحُونَ} اسم فاعل من أصلح. والصلاح: ضد الفساد. وصلح الشيء بضم اللام وفتحها لغتان، قال ابن السكيت. والصلوح بضم الصاد مصدر صلح بضم اللام، قال الشاعر: وصلاح من أسماء مكة. والصلح بكسر الصاد: نهر. وإنما قالوا ذلك على ظنهم، لأن إفسادهم عندهم إصلاح، أي أن ممالاتنا للكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. قال ابن عباس وغيره.
وتسفهت الشيء: استحقرته. والسفه: ضد الحلم. ويقال: إن السفه أن يكثر الرجل شرب الماء فلا يروى. ويجوز في همزتي السفهاء أربعة أوجه، أجودها أن تحقق الأولى وتقلب الثانية واوا خالصة، وهي قراءة أهل المدينة والمعروف من قراءة أبي عمرو. وإن شئت خففتهما جميعا فجعلت الأولى بين الهمزة والواو وجعلت الثانية واوا خالصة. وإن شئت خففت الأولى وحققت الثانية. وإن شئت حققتهما جميعا.قوله تعالى: {وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ} مثل: {وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ}، وقد تقدم. والعلم معرفة المعلوم على ما هو به، تقول: علمت الشيء أعلمه علما عرفته، وعالمت الرجل فعلمته أعلمه بالضم في المستقبل. غلبته بالعلم.
قد قتل الله زيادا عني لما أنزله منزلة صرف.وقال قوم: {إلى} بمعنى مع، وفيه ضعف.وقال قوم: {إلى} بمعنى الباء، وهذا يأباه الخليل وسيبويه.وقيل: المعنى وإذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم، ف {إلى} على بابها. والشياطين جمع شيطان على التكسير، وقد تقدم القول في اشتقاقه ومعناه في الاستعاذة. واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا، فقال ابن عباس والسدي: هم رؤساء الكفر.وقال الكلبي: هم شياطين الجن.وقال جمع من المفسرين: هم الكهان. ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الايمان والخير يعم جميع من ذكر. والله أعلم.قوله تعالى: {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} أي مكذبون بما ندعى إليه.وقيل: ساخرون. والهزء: السخرية واللعب، يقال: هزئ به واستهزأ، قال الراجز: وقيل: أصل الاستهزاء: الانتقام، كما قال الآخر:
فسمى انتصاره جهلا، والجهل لا يفتخر به ذو عقل، وإنما قال ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له في معناه، وعلى ذلك جاء القرآن والسنة.وقال الله عز وجل: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشورى: 40]. وقال: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداء، لأنه حق وجب، ومثله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]. و{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15- 16]. و{إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وليس منه سبحانه مكر ولا هزء ولا كيد، إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم، وكذلك {يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ} [النساء: 142]. {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79].وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله لا يمل حتى تملوا ولا يسأم حتى تسأموا». قيل: حتى بمعنى الواو أي وتملوا. وقيل المعنى وأنتم تملون.وقيل: المعنى لا يقطع عنكم ثواب أعمالكم حتى تقطعوا العمل.وقال قوم: إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزء وخدع ومكر، حسب ما روى: «إن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم».وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا} هم منافقو أهل الكتاب، فذكرهم وذكر استهزاءهم، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم يعني رؤساءهم في الكفر على ما تقدم قالوا: إنا معكم على دينكم {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} بأصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} في الآخرة، يفتح لهم باب جهنم من الجنة، ثم يقال لهم: تعالوا، فيقبلون يسبحون في النار، والمؤمنون على الأرائك وهي السرر في الحجال ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم، فيضحك المؤمنون منهم، فذلك قول الله عز وجل: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي في الآخرة، ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الأبواب، فذلك قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 34- 35] إلى أهل النار {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36].وقال قوم: الخداع من الله والاستهزاء هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية عليهم، فالله سبحانه وتعالى يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم، ويستر عنهم من عذاب الآخرة، فيظنون أنه راض عنهم، وهو تعالى قد حتم عذابهم، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء ومكر وخداع، ودل على هذا التأويل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج». ثم نزع بهذه الآية: {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [الأنعام: 44- 45].وقال بعض العلماء في قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة.قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ} أي يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملي لهم، كما قال: {إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً} [آل عمران: 178] وأصله الزيادة. قال يونس بن حبيب: يقال مد لهم في الشر، وأمد في الخير، قال الله تعالى: {وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: 6]. وقال: {وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22].وحكى عن الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددته إذا أعطيته. وعن الفراء واللحياني: مددت، فيما كانت زيادته من مثله، يقال: مد النهر النهر، وفي التنزيل: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27]. وأمددت، فيما كانت زيادته من غيره، كقولك: أمددت الجيش بمدد، ومنه: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} [آل عمران: 125]. وأمد الجرح، لأن المدة من غيره، أي صارت فيه مدة.قوله تعالى: {فِي طُغْيانِهِمْ} كفرهم وضلالهم. واصل الطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ} [الحاقة: 11] أي ارتفع وعلا وتجاوز المقدار الذي قدرته الخزان. وقوله في فرعون: {إِنَّهُ طَغى} [طه: 24] أي أسرف في الدعوى حيث قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} [النازعات: 24]. والمعنى في الآية: يمدهم بطول العمر حتى يزيدوا في الطغيان فيزيدهم في عذابهم.قوله تعالى: {يَعْمَهُونَ} يعمون.وقال مجاهد: أي يترددون متحيرين في الكفر.وحكى أهل اللغة: عمه الرجل يعمه عموها وعمها فهو عمه وعامه إذا حار، ويقال رجل عامه وعمه: حائر متردد، وجمعه عمه. وذهبت إبله العمهى إذا لم يدر أين ذهبت. والعمى في العين، والعمه في القلب وفي التنزيل: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
|