الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الرسالة **
قال الشافعي: فقال لي قائل: قد فهمتُ مذهبك في أحكام الله، ثم أحكام رسوله، وأن من قَبِل عن رسول الله، فعن الله قَبِل، بأن الله افترض طاعة رسوله، وقامت الحجة بما قلتَ بأن لا يحلَّ لمسلم عَلِمَ كتاباً ولا سنة أين يقول بخلاف واحد منهما، وعلمتُ أن هذا فرضُ الله. فما حجتك في أن تَتْبع ما اجتمع الناس عليه مما ليس فيه نص حكم لله، ولم يحكوه عن النبي؟ أتزعُمُ ما يقول غيرك أن إجماعهم لا يكون أبداً إلا على سنة ثابتة، وإن لم يحكوها؟! قال: فقلت له: أمَّا ما اجتمعوا عليه، فذكروا أنه حكاية عن رسول الله، فكما قالوا، إن شاء الله. وأما ما لم يحكوه، فاحتمل أن يكون قالوا حكايةً عن رسول الله، واحتمل غيره، ولا يجوز أن نَعُدَّه له حكايةً، لأنه لا يجوز أن يحكي إلا مسموعاً، ولا يجوز أن يحكي شيئاً يُتَوَهَّم، يمكن فيه غير ما قال. فكنا نقول بما قالوا به اتباعاً لهم، ونعلم أنهم إذا كانت سنن رسول الله لا تَعزُبُ عن عامتهم، وقد تعزُبُ عن بعضهم. ونعلم أن عامّتهم لا تجتمع على خلافٍ لسنة رسول الله، ولا على خطأ، إن شاء الله. فإن قال: فهل من شيء يدل على ذلك، وتشدُّه به؟ قيل: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن رسول الله قال: (نَصَّرَ الله عبداً ) أخبرنا سفيان عن عبد الله بن أبي لبيد عن ابن سليمان بن يسار عن أبيه: أن عمر بن الخطاب خطبَ الناسَ بالجابية، فقال: (إن رسول الله قام [ في الأصل ((قام الله فينا)) !] فينا كمَقَامي فيكم، فقال: أكرموا أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب، حتى إن الرجل لَيَحْلف ولا يُستحلف، ويَشهد ولا يُستشهد، ألا فمن سرَّه بَحبَحَة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفَذّ وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلُوَنَّ رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهم، ومن سَرَّته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمن) [ الحديث مرسل فسليمان بن يسار لم يدرك عمر والحديث صح عن عمر رواه أحمد 1/18،26 والطيالسي ص 7 والترمذي، أبواب الفتن، باب لزم الجماعة، والحاكم 1/113 - 115] قال: فما معنى أمر النبي بلزوم جماعتهم؟ قلت: لا معنى له إلا واحد. قال: فكيف لا يحتمل إلا واحداً؟ قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان، فلا يقدر أحدٌ أن يلزم جماعةَ أبدانِ قومٍ متفرقين، وقد وُجِدَت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفُجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى، لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئاً فلم يكن للزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما. ومن قال بما تقول به جماعةُ المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِرَ بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفُرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافةً غفلةٌ عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس، إن شاء الله. *2* قال: فمن أين قلت: يقال بالقياس فيما لا كتابَ فيه ولا سنةَ ولا إجماعَ؟ أفالقياس نصُّ خبٍر لازمٍ؟ قلت: لو كان القياس نصَّ كتاب أو سنة قيل في كل ما كان نصَّ كتاب هذا حُكمُ الله ، وفي كل ما كان نصَّ السنة هذا حكم رسول الله ، ولم نَقُل له: قياس. قال: فما القياس؟ أهو الاجتهاد؟ أم هما مفترقان؟ قلت: هما اسمان لمعنىً واحد. قال: فما جِماعهما؟ قلت: كل ما نزل بمسلم فقيه حكم لازم، أو على سبيل الحقِّ فيه دلالةٌ موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكمٌ: اتباعُه، وإذا لم يكن فيه بعينه طُلِب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد. والاجتهادُ القياسُ. 0 قال: أفرأيت العالمين إذا قاسوا، على إحاطةٍ هم من أنهم أصابوا الحقَّ عند الله؟ وهل يسعهم أن يختلفوا في القياس؟ وهل كُلفوا كل أمر من سبيل واحد، أو سبل متفرقة؟ وما الحجةُ في أن لهم أي يقيسوا على الظاهر دون الباطن؟ وأنه يسعهم أن يتفرقوا؟ وهل يختلف ما كُلفوا في أنفسهم، وما كُلفوا في غيرهم؟ ومن الذي له أن يجتهد فيقيس في نفسه دون غيره؟ والذي له أن يقيس في نفسه وغيره؟ فقلت: له العلم من وجوه: منه إحاطةٌ في الظاهر والباطن، ومنه حق في الظاهر. فالإحاطة منه ما كان نصَّ حكم لله أو سنة لرسول الله نقلها العامة عن العامة. فهذان السبيلان اللذان يُشهد بهما فيما أُحل أنه حلال، وفيما حُرم أنه حرام. وهذا الذي لا يَسَع أحداً عندنا جَهْلُه ولا الشكُّ فيه. وعلمُ الخاصة سنةً من خبر الخاصة يعرفها العلماء، ولم يُكَلَّفها غيرهم، وهي موجودة فيهم أو في بعضهم، بصدق الخاص المخبِرِ عن رسول الله بها. وهذا اللازم لأهل العلم أن يصيروا إليه، وهو الحق في الظاهر، كما نقتل بشاهدين. وذلك حق في الظاهر، وقد يمكن في الشاهدين الغلطُ. وعلمُ إجماع. وعلمُ اجتهادٍ بقياسٍ، على طلب إصابة الحق. فذلك حق في الظاهر عند قايِسِه، لا عند العامة من العلماء، ولا يعلم الغيب فيه إلا الله. وإذا طُلب العلم فيه بالقياس، فقيس بصحةٍ: اِيْتَفَقَ المقايسون في أكثره، وقد نجدهم يختلفون. والقياس من وجهين: أحدهما: أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه. وأن يكون الشيء له في الأصول أشباهٌ، فذلك يُلحق بأولاها به وأكثرِها شَبَهاً فيه. وقد يختلف القايسون في هذا. قال: فأوجِدني ما أعرف به أن العلم من وجهين: أحدهما: إحاطةٌ بالحق في الظاهر والباطن، والآخر إحاطةٌ بحق في الظاهر دون الباطن: مما أعرفُ؟ فقلت له: أرأيت إذا كنا في المسجد الحرام نرى الكعبة: أَكُلِّفْنا أن نستقبلها بإحاطة؟ قال: نعم. قلت: وفُرِضَت علينا الصلوات والزكاة والحج، وغير ذلك: أَكُلِّفنا الإحاطةَ في أن نأتي بما علينا بإحاطةٍ؟ قال: نعم. قلت: وحين فُرِض علينا أن نجلدَ الزاني مائة، ونجلدَ القاذف ثمانين، ونقتلَ مَن كَفَرَ بعد إسلامه، ونقطع من سرق: أَكُلِّفْنا أن نفعل هذا بمن ثبت عليه بإحاطةٍ نعلم أنا قد أخذناه منه؟ قال: نعم. قلت: وسواءٌ ما كُلِّفنا في أنفسنا وغيرِنا، إذا كنا ندري من أنفسنا بأنّا نعلم منها ما لا يعلم غيرنا، ومن غيرنا ما لا يدركه علْمُنا كإدراكنا العلمَ في أنفسنا؟ قال: نعم. قلت: وكُلِّفْنا في أنفسنا أين ما كُنا أن نَتَوَجه إلى البيت بالقبلة؟ قال: نعم. قلت: أفتجدنا على إحاطةٍ من أنا قد أصبنا البيت بتوجهنا؟ قال: أما كما وجدتكم حين كنتم ترون فلا، وأما أنتم فقد أدَّيتم ما كُلِّفتم. قلت: والذي كُلفنا في طلب العين المغيَّب غيرُ الذي كُلِّفنا في طلب العين الشاهد. ِ قال: نعم. قلت: وكذلك كُلفنا أن نقبل عدل الرجل على ما ظهر لنا منه، ونناكحَه ونوارثَه على ما يظهر لنا من إسلامه؟ قال: نعم. قلت: وقد يكون غير عدل في الباطن؟ قال: قد يمكن هذا فيه، ولكن لم تُكَلفوا فيه الا الظاهر. قلت: وحلالٌ لنا أن نناكحه، ونوارثه، ونجيز شهادته، ومحرمٌ علينا دمه بالظاهر؟ وحرامٌ على غيرنا إن عَلم منه أنه كافر إلا قتلَه ومنعَه المناكحةَ والموارثةَ وما أعطيناه؟ قال: نعم. قلت: وُجِدَ الفرض علينا في رجل واحد مختلفاً على مبلغ علمنا وعلم غيرنا؟ قال: نعم، وكلكم مؤدي ما عليه على قدر علمه. قلت: هكذا قلنا لك فيما ليس فيه نص حكم لازمٍ، وإنما نطلب باجتهادِ القياسِ، وإنما كُلفنا فيه الحقَّ عندنا. قال: فتجدُك تحكم بأمر واحد من وجوه مختلفة؟ قلت: نعم، إذا اختلفت أسبابه. قال: فاذكر منه شيئاً. قلت: قد يُقِرّ الرجل عندي على نفسه بالحق لله، أو لبعض الآدميين، فآخذه بإقراره، ولا يقر، فآخذه بِيَنِّة تقوم عليه، ولا تقوم عليه بينة، فَيُدَّعى عليه، فآمره بأن يحلف ويَبرَْأَ، فيَمتنعُ، فآمر خصمَه بأن يحلف، ونأخذُه بما حلف عليه خصمه، إذا أبى اليمين التي تُبرِئه، ونحن نعلم أن إقراره على نفسه - بِشُحِّه على ماله، وأنه يُخاف ظَلمُه بالشحِّ عليه -: أصدَقُ عليه من شهادة غيره، لأن غيره قد يَغلِط ويكذب عليه، وشهادةُ العدول عليه أقربُ من الصدق من امتناعه من اليمين ويمينِ خصمه، وهو غيرُ عدل، وأُعطي منه بأسبابٍ بعضُها أقوى من بعض. قال: هذا كله هكذا، غيرَ أنا إذا نَكِل عن اليمين أعطينا منه بالنكول. قلت: فقد أعطيتَ منه بأضعفَ مما أعطينا منه؟ قال: أجل، ولكني أخالفك في الأصل. قلت: وأقوى ما أعطيتَ به منه إقرارُه، وقد يمكن أن يُقِر بحق مسلم ناسياً أو غلطاً، فآخذُه به؟ قال: أجل، ولكنك لم تُكَلف إلا هذا. قلنا: فلستَ تراني كُلِّفت الحقَّ من وجهين: أحدهما: حقٌّ بإحاطةٍ في الظاهر والباطن، والآخر: حق بالظاهر دون الباطن؟ قال: بلى، ولكن هل تجد في هذا قوةً بكتاب أو سنة؟ قلت: نعم، ما وصفتُ لك مما كُلفت في القبلة وفي نفسي وفي غيري. قال الله: وقال لنبيه: { سفيانُ عن الزُّهري عن عُروة قال: لم يَزَل رسول الله يَسأل عن الساعة، حتى أنزل الله عليه وقال الله تبارك وتعالى: فالناس مُتَعَبَّدون بأن يقولوا ويفعلوا ما أُمروا به، وينتهوا إليه، لا يُجاوزونَه، لأنهم لم يُعطوا أنفسَهم شيئاً، إنما هو عطاء الله. فنسأل الله عطاءاً مؤدِّياً لحقه، موجِباً لمزيده. قال: أفتجد تجويز ما قلت من الاجتهاد، مع ما وصفتَ فتذكرَه؟ قلت: نعم، استدلالاً بقول الله: قال: فما شطره؟ قلت: تلقاءَه قال الشاعر: إن العسيبَ بها داءٌ مُخامِرُها فشَطْرَها بَصَرُ العَينين مَسجُورُ فالعلم يحيط أن مَن تَوَجه تلقاء المسجد الحرام ممن نَأَت داره عنه: على صواب بالاجتهاد للتوجه الى البيت بالدلائل عليه، لأن الذي كُلف التوجُّهُ إليه، وهو لا يدري أصاب بتوجهه قصْدَ المسجد الحرام أم أخطأه، وقد يَرَى دلائل يعرفها فيَتَوجه بقدر ما يعرف [ ويعرف غيره دلائل غيرها، فيتوجه بقدر ما يعرف ] وإن اختلف توجههما. قال: فإن أجزتُ لك هذا أجزتُ لك في بعض الحالات الاختلافَ. قلت: فقل فيه ما شئتَ. قال: أقول. لا يجوز هذا. قلت: فهو أنا وأنت، ونحن بالطريق عالمان، قلت: وهذه القبلةُ، وزعمتَ خِلافي على أيِّنا يتبع صاحبه؟ قال: ما على واحد منكما أن يتبع صاحبه. قلت: فما يجب عليهما؟ قال: إن قلتُ لا يجب عليهما أن يصليا حتى يعلما بإحاطة: فهما لا يعلمان أبداً المغيَّب بإحاطة، وهما إذاً يَدَعان الصلاة، أو يرتفع عنهما فرضُ القبلة، فيصليان حيث شاءا، ولا أقول واحداً من هذين، وما أجد بُدَّاً من أن أقول: يصلي كل واحد منهما كما يرى، ولم يُكَلفا غير هذا، أو أقولَ كُلف الصوابَ في الظاهر والباطن، ووُضع عنهما الخطأ في الباطن دون الظاهر. قلت: فأيَّهما قلتَ فهو حجة عليك، لأنك فرَّقت بين حكم الباطن والظاهر، وذلك الذي أنكرتَ علينا، وأنت: تقول إذا اختلفتم قلتُ ولا بد أن يكون أحدهما مخطئً؟ قلت: أجل. قلت: فقد أجزتَ الصلاة وأنت تعلم أحدَهما مخطئً، وقد يمكن أن يكونا معاً مخطئين. وقلت له: وهذا يلزمك في الشهادات وفي القياس. قال: ما أجد من هذا بُدَّاً، ولكن أقول: هو خطأ موضوع. فقلت له: قال الله: { فأمرهم بالمِثل، وجعل المثل الى عدلين يحكمان فيه، فلما حُرِّم مأكولُ الصيد عامّاً كانت لِدَوَابِّ الصيد أمثالٌ على الأبدان. فحَكَمَ مَن حَكَمَ من أصحاب رسول الله على ذلك، فقضى في الضَّبُع بكَبْشٍ، وفي الغزال بعَنْز، وفي الأرنب بعَنَاق، وفي اليَربوع بجَفْرَةٍ.[ العَنَاق: ما لم يتم له سنة من أنثى أولاد المعز. والجَفْرة: ما بلغ أربعة أشهر وفُصل عن أمه وأخذ في الرعي.] والعلم يحيط أنهم أرادوا في هذا المثلَ بالبدن، لا بالقِيَم، ولو حكموا على القيم اختلفت أحكامهم لاختلاف أثمان الصيد في البلدان وفي الأزمان، وأحكامُهم فيها واحدة. والعلم يحيط أن اليربوع ليس مثل الجَفرة في البدن، ولكنها كانت أقربَ الأشياء منه شَبَهَاً، فجُعلت مثله، وهذا من القياس يَتَقَارب تقاربَ العنز والظَّبي، ويَبعد قليلاً بُعْد الجفرة من اليربوع. ولما كان المثل في الأبدان في الدوابِّ من الصيد دون الطائر: لم يَجُز فيه إلا ما قال عمر - والله أعلم - من أن يُنظر الى المقتول من الصيد، فيُجزى بأقرب الأشياء به شَبَهَاً منه في البدن، فإذا فات منها شيئاً [ أي جاوز شيئاً.] رُفِع إلى أقرب الأشياء به شَبَهَاً، كما فاتت الضَّبُع العنز، فرُفِعت الى الكبش، وصَغُرَ اليربوع عن العَنَاق فخُفِضَ الى الجَفْرة. وكان طائر الصيد لا مثل له في النَّعَم لاختلاف خِلقته وخلقته، فجُزِي خبراً وقياساً [ أي فجزي استدلالاً بالخبر والقياس.] على ما كان ممنوعاً لإنسان فأتلفه إنسان، فعليه قيمته لمالكه. قال الشافعي: فالحكم فيه بالقيمة يجتمع في أنه يُقَوَّم قيمةَ يومه وبلده، ويختلف في الأزمان والبلدان، حتى يكون الطائر ببلد ثمنَ درهمٍ، وفي البلد الآخر ثمنَ بعضِ ردهم. وأمرنا بإجازة شهادة العدل، وإذا شُرط علينا أن نقبل العدل ففيه دلالة على أن نردَّ ما خالفه. وليس للعدل علامة تفرِّق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه، وإنما علامة صدقه بما يُختَبر من حاله في نفسه. فإذا كان الأغلب من أمره ظاهرَ الخير: قُبِلَ، وإن كان فيه تقصير عن بعض أمره، لأنه لا يُعَرَّى أحد رأيناه من الذنوب. وإذا خَلَطَ الذنوب والعمل الصالح، فليس فيه إلا الاجتهاد على الأغلب من أمره، بالتمييز بين حَسَنه وقبيحه، وإذا كان هذا هكذا، فلا بد من أن يختلف المجتهدون فيه. وإذا ظهر حَسَنه فقبلنا شهادته، فجاء حاكم غيرُنا، فعلم منه ظهور السّيّء كان عليه ردُّه. وقد حكم الحاكمان في أمر واحد برَدٍّ وقبولٍ، وهذا اختلاف، ولكن كلٌّ قد فعل ما عليه. قال: فتذكر حديثاً في تجويز الاجتهاد؟ قلت: نعم، أخبرنا عبد العزيز عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن بُسْر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله يقول: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر أخبرنا عبد العزيز عن ابن الهاد قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة فقال: هذه رواية منفردة، يردُّها علي وعليك غيري وغيرك، ولغيري عليك فيها موضعُ مطالبة. قلت: نحن وأنت ممن يثبتها؟ قال: نعم. قلت: فالذين يردونها يعلمون ما وصفنا من تثبيتها وغيرِه. قلت: فأين موضعُ المطالبة فيها؟ فقال: قد سمى رسول الله فيما رويتَ من الاجتهاد خطأً و صواباً؟ فقلت: فذلك الحجةُ عليك. قال: وكيف؟ قلت: إذ ذكر النبي أنه يثاب على أحدهما أكثرَ مما يُثاب على الآخر، ولا يكون الثواب فيما لا يسع، ولا الثواب في الخطأ الموضوع. لأنه لو كان إذا قيل له: اجتهد على الخطأ، فاجتهد على الظاهر كما أُمر كان مخطئا خطأ مرفوعاً، كما قلت -: كانت العقوبة في الخطأ - فيما نُرى والله أعلم - أولى به، وكان أكثرَُ أمره أن يُغفر له، ولم يُشبه أن يكون له ثواب على خطأ لا يسعه. وفي هذا دليل على ما قلنا: أنه إنما كُلف في الحكم الاجتهادَ على الظاهر دون المغيَّب، والله أعلم. قال: إن هذا ليحتمل أن يكون كما قلتَ، ولكن ما معنى صواب خطأ؟ قلت له: مثل معنى استقبال الكعبة، يصيبها من رآها بإحاطة، ويتحراها من غابت عنه، بَعُدَ أو قَرُبَ منها، فيصيبها بعضٌ ويخطئها بعضٌ، فنفس التوجه يحتمل صواباً وخطأ، إذا قَصَدتَ بالإخبار عن الصواب والخطأ قَصْدَ أن يقول: فلان أصاب قَصْد ما طلب فلم يخطِئْه، وفلان أخطأ قصد ما طلب وقد جهِد في طلبه. فقال: هذا هكذا، أفرأيت الاجتهاد، أيقال له صواب على غير هذا المعنى؟ قلت: نعم على أنه إنما كُلف فيما غاب عنه الاجتهادَ، فإذا فعل فقد أصاب بالإتيان بما كُلف، وهو صواب عنده على الظاهر، ولا يعلم الباطن إلا الله. ونحن نعلم أن المختلفَين في القبلة، وإن أصابا بالاجتهاد إذا اختلفنا يريدانِ عيناً: لم يكونا مصيبَين للعين أبداً، ومصيبان في الاجتهاد. وهكذا ما وصفنا في الشهود وغيرهم. قال: أفتوجدني مثل هذا؟ قلت: ما أحسِب هذا يُوضَح بأقوى من هذا! قال: فاذكر غيره؟ قلت: أحل الله لنا أن ننكح من النساء مثنى وثلاث ورباع وما ملكت أيماننا، وحرّم الأمهات والبنات والأخوات. قال: نعم. قلت: فلو أن رجلاً اشترى جارية، فاستبرأها أَيحَلُّ له إصابتها؟ قال: نعم. قلت: فأصابها وولَدَت له دهراً، ثم علم أنها أختُه، كيف القول فيه؟ قال: كان ذلك حلالاً حتى علم بها، فلم يَحِل له أن يعود إليها. قلت: فيقال لك في امرأة واحدة حلالٌ له حرامٌ عليه، بغير إحداث شيء أحدثه هو ولا أحدثَتْه؟ قال: أما في المغيَّب فلم تزل أختَه أولاً وآخراً، وأما في الظاهر، فكانت له حلالاً ما لم يعلم، وعليه حرامٌ حين علم. وقال: إن غيرنا ليقول: لم يزل آثماً بإصابتها، ولكنه مأثَم مرفوع عنه. فقلت: الله اعلم، وأيَّهما كان، فقد فرَّقوا فيه بين حكم الظاهر والباطن، وألغوا المأثم عن المجتهد على الظاهر، وإن أخطأ عندهم، ولم يُلغوه عن العامد. قال: أجل. وقلت له: مَثَلُ هذا الرجل ينكح ذاتَ مَحرَم منه، ولا يعلم، وخامسةً وقد بلغته وفاة رابعة كانت زوجة له، وأشباهٌ لهذا. قال: نعم أشباه هذا كثير. فقال: إنه لَبَيِّن عند من يثبت الرواية منكم أنه لا يكون الاجتهاد أبداً إلا على طلب عينٍ قائمة مُغَيَّبة بدلالة، وأنه قد يسع الاختلاف مَن له الاجتهاد. فقال: فكيف الاجتهاد؟ فقلت: إن الله جل ثناؤه مَنَّ على العباد بعقول، فدلهم بها على الفَرْق بين المختلف، وهداهم السبيل إلى الحق نصاً ودلالةً. قال: فَمَثِّل من ذلك شيئاً؟ قلت: نَصَبَ لهم البيت الحرام، وأمرهم بالتوجه إليه إذا رأوه، وتَأَخِّيه إذا غابوا عنه، وخَلَقَ لهم سماء وأرضاً وشمساً وقمرا ونجوماً وبحاراً وجبالاً ورياحاً. فقال: وقال: فأخبر أنهم يهتدون بالنجم والعلامات. فكانوا يعرفون بمنِّه جهة البيت بمعونته لهم، وتوفيقه إياهم، بأن قد رآه من رآه منهم في مكانه، وأخبر من رآه منهم من لم يره، وأبصر ما يُهتَدَى به إليه، من جَبَل يُقصد قَصده، أو نجمٍ يُؤْتمّ به وشمال وجنوبٍ، وشمسٍ يُعرف مَطلِعُها ومَغرِبها، وأين تكون من المصلَّى بالعشي، وبحورٍ كذلك. وكان عليهم تَكَلف الدلالات بما خلق لهم من العقول التي رَكَّبها فيهم، ليقصدوا قصد التوجه للعين التي فرض عليهم استقبالها. فإذا طلبوها مجتهدين بعقولهم وعلمهم بالدلائل، بعد استعانة الله، والرغبةِ إليه في توفيقه، فقد أدَّوا ما عليهم. وأبان لهم أن فرْضَه عليهم التوجُّه شطر المسجد الحرام، والتوجه شطره لا إصابةُ البيت بكل حال. ولم يكن لهم إذا كان لا تُمْكنهم الإحاطة في الصواب إمكانَ مَن عايَنَ البيت: أن يقولوا نتوجه حيث رأينا بلا دلالة.
|