الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكافي في فقه الإمام أحمد ***
وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه وهو مستحب لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه من بعده متفق عليه وليس بواجب لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوه ولا أمروا به إلا من أراده ويجب بالنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [من نذر أن يطيع الله فليطعه] رواه البخاري.
ويصح من الرجال والنساء وليس للمرأة أن تعتكف بغير إذن زوجها لأنه يملك استمتاعها فلا تملك تفويته بغير إذنه وليس للعبد الاعتكاف بغير إذن سيده لأنه يملك نفعه فإن أذن لهما صح منهما لأن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يعتكفن بإذنه وإن شرعا فيه تطوعا فلهما إخراجهما منه وإن كان بإذنهما لأنهلا يلزم بالشروع فيه وإن كان منذورا مأذونا فيه لم يجز إخراجهما منه سواء كان معينا أو مطلقا لأنه يتعين بالشروع ويجب إتمامه فلم يجز التحليل منه كالصوم وإن كان النذر والدخول فيه بغير إذن فلهما منعهما من ابتدائه وإخراجهما منه بعد الشروع فيه لأنه نذر يتضمن تفويت منافع مملوكة لغيرهما فأشبه نذر عارية عبد غيره.
والمكاتب كالحر في الاعتكاف لأنه لا حق للسيد في نفعه ومن نصفه حر إن لم يكن بينهما مهايأة فهو كالقن لتعلق حق سيده بنفعه في زمن اعتكافه وإن كان بينهما مهايأة فهو في زمن سيده كالقن وفي زمن نفسه كالحر لعدم حق السيد فيه.
ولا يصح إلا بنية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إنما الأعمال بالنيات] ولأنه عبادة محضة فأشبه الصوم وإن كان فرضا لزمه نية الفرضية ليميزه عن التطوع كصوم الفرض وإن نوى الخروج منعه ففيه وجهان: أحدهما: يبطل كما لو قطع نية الصوم. والثاني لا يبطل لأنه قربة تتعلق بمكان فلا يخرج منها بنية الخروج كالحج.
ويصح بغير صوم وعنه: لا يصح إلا به لما روى ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [اعتكف وصم] رواه أبو داود. والمذهب الأول لما روي عن عمر أنه قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أوف بنذرك] متفق عليه ولو كان الصوم شرطا لم يصح في الليل منفردا ولأن كل عبادة صح بعضها بغير صوم صح جميعها بغيره كالحج والأفضل الصوم ليجمعوا بين العبادتين ويخرج من الخلاف فعلى هذه الرواية يصح اعتكاف ليلة وبعض يوم وعلى الأخرى لا يصح أقل من زمن يصح فيه الصوم وإن نذر أن يعتكف بصوم لزمه لأنه صفة مقصودة في الاعتكاف فلزم بالنذر كالتتابع.
ولا يصح من رجل ولا امرأة إلا في المسجد لقول الله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة لأنها واجبة عليه فلا يجوز تركها ولا كثرة الخروج الذي يمكن التحرز منه والأفضل أن يعتكف في الجامع لأن ثواب الجماعة فيه أكثر ويصح من المرأة في جميع المساجد لعدم وجوب الجماعة عيها. ومن نذر الاعتكاف في مسجد بعينه جاز الاعتكاف في غيره لأن الله تعالى لم يعين لأداء الفرض موضعا فلم يتعين بالنذر إلا المساجد التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى] متفق عليه فإنها تتعين بالنذر فإن نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لم يجزئه الاعتكاف في غيره لأنه أفضلها وإن نذره في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز أن يعتكف في المسجد الحرام لفضله عليه ولم يجز في المسجد الأقصى لأنه مفضول وإن نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى جاز له الاعتكاف فيهما لأنهما أفضل منه بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: [صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام] رواه مسلم. وفي المسند عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال يوم الفتح: يا نبي الله إني نذرت لأصلين في بيت المقدس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [والذي بعث محمدا بالحق لو صليت هاهنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس].
فإن عين بنذره زمنا تعين ولزمه أن يعتكف فيه لأن الله تعالى عين لعباده زمنا فتعين بالنذر فإن نزر اعتكاف العشر الأواخر لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين ويخرج منه بعد غروب شمس الشهر لأن ذلك هو العشر تاما كان الشهر أو ناقصا. وعنه: أنه يدخل معتكفه إذا صلى الصبح لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح ثم يدخل معتكفه متفق عليه وإن نذرت عشر ليالي من الشهر فخرج الشهر ناقصا لزمه قضاء ليلة عن العاشرة لأنه صرح بذلك وإن نذر اعتكاف شهر بعينه لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس من أوله ويخرج منه بعد غروبها من آخره تاما كان الشهر أو ناقصا لأنه ذلك هو الشهر وإن نذر اعتكاف شهر مطلق خير بين اعتكاف ما بين هلالين وبين اعتكاف ثلاثين يوما بالعدد لأن شهر العدد ثلاثون يوما ويلزمه التتابع لأن الشهر بإطلاقه ينصرف إلى المتتابع فلزمه كما لو نزر يوما وفيه وجه آخر لا يلزمه التتابع لأنه معنى يصح فيه التفريق فلم يجب التتابع فيه بمطلق النذر كما لو نذر اعتكاف ثلاثين يوما ويدخل في نذره الليل والنهار لأن الشهر عبارة عنهما وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوما لم يلزمه التتابع لأن الأيام المطلقة توجد بدون التتابع والنذر يقتضي ما يتناوله لفظه. وقال القاضي: يلزمه التتابع لما ذكرنا في الشهر فعلى قوله تدخل الليالي في نذره وعلى الأول لا تدخل الليالي إلا أن ينويها أو يشترطها بلفظه لأن اليوم اسم لبياض النهار والتثنية والجمع تكرار للواحد فإن شرط التتابع لزمه ودخل في نذره الليالي التي فيه خلل الأيام وكذلك إذا نذر الليالي متتابعة دخل في نذره الأيام التي في خللها لأن ذلك يدخل في خلل نذره المتتابع فلزمه كأيام العشر وإن نذر اعتكاف يوم لزمه دخول معتكفه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد مغيب الشمس ليستوفي اليوم يقينا ولا يجوز تفريق ذلك في ساعات لأن اليوم اسم للكامل المتتابع فإن قال: لله تعالى علي أن أعتكف أيام هذا الشهر أو لياليه أو شهرا بالليل أو بالنهار لزمه ما نذر ولم يدخل فيه ما سواه لأنه إنما يلزمه بلفظه فيجب ما يتناوله اللفظ وإن نذر اعتكافا معينا متتابعا ففاته لزمه قضاؤه متتابعا لأن التتابع صفة فيه فلم يجز الإخلال بها في القضاء. وإن لم يقل: متتابعا ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه التتابع لأن الأداء متتابع فأشبه ما لو تلفظ بالتتابع. والثاني: لا يلزمه لأن التتابع في الأداء حصل ضرورة التعيين لا من نذره فلم يجب في القضاء كقضاء رمضان فإن لم يكن التتابع واجبا في الأداء لم يجب القضاء بطريق الأولى.
ولا يجوز الخروج من المسجد إلا لما لا بد له منه لما روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان متفق عليه ولا خلاف في جواز الخروج لحاجة الإنسان وإن احتاج إلى مأكول أو مشروب وليس له من يأتيه به فله الخروج إليه لأنه مما لا بد له منه وإن حضرت الجمعة وهو في غير موضعها فله الخروج إليها لأنها واجبة بأصل الشرع فلم يجز تركها بالاعتكاف كالوضوء: وإن دعي إلى إقامة شهادة تعينت عليه أو صلاة جنازة تعينت عليه أو دفنها أو حملها فعليه الخروج لذلك لأن وجوبه آكد لكونه حق آدمي ولا يبطل اعتكافه بشيء من هذا ما لم يطل الزمان لأنه خروج يسير مباح لم يبطل به الاعتكاف كحاجة الإنسان.
وإذا خرج لذلك فليس عليه العجلة في مشيه أكثر من عادته لأن ذلك يشق عليه ويجوز أن يسأل على المريض أو غيره في طريقه ولا يعرج إليه ولا يقف لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة متفق عليه ولأنه بالوقوف يترك اعتكاف وبالسؤال لا يتركه وإن احتاج إلى قضاء الحاجة وثم سقاية أقرب من منزله وأمكنه التنظيف فيها وهو ممن لا يحتشم من دخولها ولا نقص عليه فيه: لم يكن له المضي إلى منزله لأنه خروج لغير حاجة وإن كان له منزلان فليس له قصد الأبعد لذلك فإن خشي ضررا أو نقصا في مروءته أو انتظارا طويلا فله قصد منزله وإن بعد فإن بذل له صديق أو غيره الوضوء في منزله لم يلزمه لأنه يحتشم ويشق عليه.
لا يخرج لعيادة مريض ولا حضور جنازة لم تتعين عليه. وعنه: أنه يشهد الجنازة ويعود المريض ولا يجلس ويقضي الحاجة ويعود إلى معتكفه لأن ذاك يروى عن علي رضي الله عنه والأولى أولى لقول عائشة رضي الله عنها: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه رواه أبو داود ولكن إن كان متطوعا فله ترك اعتكافه لفعل ذلك ثم يعود إلى الاعتكاف وإن كان واجبا لم يجز له تركه لما ليس بواجب وإن شرط فعل ذلك في نذره فله فعله وكذلك إن شرط العشاء في أهله جاز لأنه يجب بعقده فكان الشرط فيه إليه كالوقوف وإن شرط أنه متى مرض أو عرض له عارض خرج جاز شرطه لذلك وإن شرط الوطء في اعتكافه أو الفرجة أو النزهة أو البيع للتجارة أو التكسب بالصناعة في المسجد لم يصح شرطه لأن هذا ينافي الاعتكاف فلم يصح شرطه كتركه الإقامة في المسجد.
وإن خرج لما له منه بد بطل اعتكافه فإن كان ناسيا فقال القاضي: لا يبطل لأنه فعل المنهي عنه في العبادة ناسيا فلم يبطلها كالأكل في الصوم وقال ابن عقيل: يبطلها لأنه ترك الاعتكاف فاستوى عمده وسهوه كترك النية وحكم المكره حكم الناسي لأنه في معناه في العفو بالخبر الوارد فيهما وإن أخرج بعض جسده جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف إلى عائشة فتغسله متفق عليه وله صعود سطح المسجد لأنه منه ولهذا منع الجنب من اللبث فيه وفي رحبة المسجد ما يدل على روايتين وجمع القاضي بينهما بحملهما على حالين فقال: إن كان عليها حائط وباب فهي كالمسجد لأنها معه تابعة له وإن لم تكن محوطة لم يثبت لها حكمه وإن خرج إلى منارة خارجة من المسجد بطل اعتكافه لأنها ليست منه قال أبو الخطاب: ويحتمل أن لا يبطل لأنها منارة المسجد كالمتصلة به.
وإذا دعت الحاجة إلى ترك الاعتكاف لأمر لا بد منه كحيض المرأة أو نفاسها أو وجوب الاعتداد عليها في منزلها أو لمرض يتعذر معه الاعتكاف إلا بمشقة شديدة أو لوقوع فتنة يخاف منها على نفسه أو ماله أو منزله أو لعموم النفير والاحتياج إلى خروجه فله ترك الاعتكاف لأن هذا يسقط به الواجب بأصل الشرع وهو الجمعة والجماعة فغيره أولى وإذا زال العذر والاعتكاف تطوع فإن شاء رجع إليه وإن شاء لم يرجع لأنه لا يلزم بالشروع وإن كان منذورا لم يخل من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون نذر أياما معلومة مطلقة فعليه إتمام باقيها حسب لأنه يأتي بالمنذور على وجهه. الثاني: نذر أياما متتابعة غير معنية فهو مخير بين البناء والقضاء وكفارة يمين وبين أن يبتدئها ولا كفارة عليه. الثالث: نذر مدة معينة فعليه قضاء ما ترك وكفارة يمين لتركه فعل المنذور في وقته إلا في الحيض والنفاس فإنه لا كفارة في الخروج له لأنه خروج لعذر معتاد فأشبه الخروج لحاجة الإنسان. وذكر القاضي: أن كل خروج لواجب كالشهادة المتعينة والنفير العام وقضاء العدة فلا كفارة فيه لأنه خروج واجب أشبه الخروج للحيض وذكر أبو الخطاب رواية تدل على أن كل من ترك المنذور لعذر لا كفارة عليه قياسا على خروج الحائض من الاعتكاف.
ويحرم على المعتكف الوطء لقول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} فإن وطئ فسد اعتكافه لأن الوطء إذا حرم في العبادة أفسدها كالصوم والحج والعامد والساهي سواء لأن الجماع في العبادة يستوي عمده وسهوه بدليل الحج والصوم ولا كفارة عليه نص عليه. وعنه: عليه الكفارة لأنها عبادة يفسدها الوطء فوجب به الكفارة كالحج. والأول: المذهب لأنها عبادة لا تجب بأصل الشرع ولا تلزم بالشروع فلا يجب بإفسادها كفارة كصوم غير رمضان وهذا ينقض القياس الأول. واختلف موجبوا الكفارة فيها: فقال القاضي: هي ككفارة الوطء في رمضان قياسا لها عليها. وعن أبي بكر: هي كفارة يمين لأنها كفارة نذر فكانت كفارة يمين كسائر كفاراته وأما المباشرة فيما دون الفرج فإن كانت لغير شهوة فهي مباحة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه إلى عائشة فترجله وهو معتكف وإن كانت لشهوة فهي محرمة لقول عائشة: السنة للمعتكف أن لا يمس امرأة ولا يباشرها رواه أبو داود. فإن فعل فأنزل أفسد اعتكافه وإلا فلا كقولنا في الصوم وإن شرب مسكرا أو ارتد فسد اعتكافه لأنه خرج بذلك عن أن يكون من أهل المسجد فصار كالخارج منه وكل موضوع فسد اعتكافه التطوع فلا قضاء عليه ولا غيره لأنه لا يلزم بالشروع فهو كصوم النفل وإن كان نذرا متتابعا بطل ما مضى منه واستأنف لأن التتابع وصف في الاعتكاف أمكن أن يأتي به فلزمه كعدة الأيام وإن كان نذره مدة معينة ففيه وجهان: أحدهما: يبطل ما مضى ويستأنف لأنه اعتكاف متتابع فأشبه المقيد بالتتابع لفظا. والثاني: لا يبطل الماضي ويستأنف لأن التتابع حصل ضرورة التعيين والتعيين مصرح به في النذر فالمحافظة على المصرح به أولى فعلى هذا يقضي ما أفسده ويتم كما لو أفسد لعذر وعليه كفارة في الوجهين جميعا.
وليس للمعتكف بيع ولا شراء إلا لما لا بد منه كالطعام ونحوه ولا يتكسب بالصنعة لأن الاعتكاف لزوم طاعة الله وعبادته في المسجد والتجارة فيه تنافيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع والشراء في المسجد وهو حديث حسن فإن خرج ترك اعتكافه ولا يخيط في المسجد ولا يعمل صنعة سواء كان محتاجا إلى ذلك أو لو يكن لأن المسجد لم يبن لذلك قال أحمد رضي الله عنه في المعتكف يخيط: لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يعمل وإن فعل شيئا من ذلك في المسجد لم يفسد اعتكافه لأنه لا ينافيه.
وليس له أن يبول في المسجد في إناء لأن هذا يقبح ويفحش فوجب صيانة المسجد عنه كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله وإن أراد الفصد أو الحجامة أو القيء فيه فهو كذلك لأنه إراقة النجاسة فهو كالبول وإن دعت إلى ذلك ضرورة خرج من المسجد ففعله كما يخرج لحاجة الإنسان وإن استغنى عنه فليس له فعله وللمستحاضة الاعتكاف وتحترز بما يمنع تلويث المسجد لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد امرأة من نسائه فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي أخرجه البخاري ولأن هذا لا يمنع الصلاة فلم يمنع الاعتكاف بخلاف ما قبله.
ويجوز للمعتكف الأكل في المسجد ويضع سفرة أو غيرها يسقط عليها ما يقع منه كيلا يتلوث المسجد ويغسل يده في طست ليفرغ خارج المسجد ولا يجوز له الخروج لغسل يديه لأنه خروج لما له منه بد وله أن يتنظف ويرجل شعره ويغسله لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله وهو معتكف وله أن يتطيب ويلبس رفيع الثياب لأن هذه عبادة لا تحرم اللباس فلا تحرم ذلك كالصوم وله أن يتزوج ويشهد النكاح لذلك وله أن يحدث غيره ويأمر بحاجته لما روت صفية رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني متفق عليه.
ويستحب له التشاغل بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن واجتناب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش والإكثار من الكلام فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف ففي الاعتكاف الذي هو استشعار بطاعة الله تعالى ولزوم عبادته وبيته أولى ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك لن لما لم يبطل بمباح الكلام لم يبطل بمحرمه كالصوم.
فأما التزام الصمت فليس من شريعة الإسلام لما روى قيس بن مسلم قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس فرآها لا تتكلم فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت رواه البخاري وعن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لا صمات يوم إلى الليل] رواه أبو داود فإن نذر ذلك فهو كنذر المعاصي على ما سيأتي. قال ابن عقيل: ولا يجوز جعل القرآن بدلا من الكلام لأنه استعمال له في غير ما هو له فهو كتوسد المصحف وقد جاء: لا يناظر بكتاب الله أي: لا يتكلم به عند الشيء تراه كأن ترى لرجلا جاء في وقته فتقول: وجئت على قدر يا موسى وذكر أبو عبيد نحو هذا.
وأما قراءة القرآن وتدريس العلم ومناظرة الفقهاء ومذاكرتهم وكتابة العلم فحكي فيه روايتان: إحداهما: يستحب اختارها أبو الخطاب لأن ذلك أفضل العبادات لتعدي نفعه ويمكن فعله في المسجد فكان مستحبا له كالصلاة. والثانية: لا يستحب وهو ظاهر المذهب لأن الاعتكاف عبادة شرط لها المسجد فلم يستحب ذلك فيها كالطواف والصلاة وعلى هذه الرواية فعله لهذه الأمور أفضل من اعتكافه الشاغل عنها قال المروذي: قلت لأبي عبد الله إن رجلا يقرئ في المسجد يريد أن يعتكف لعله أن يختم في كل يوم؟ فقال: إذا فعل هذا كان لنفسه وإذا قعد في المسجد كان له ولغيره يقرئ أحب إلي.
ومن اعتكف العشر الأخير من رمضان استحب أن يبيت ليلة الفطر في معتكفه ثم يخرج من المصلى في ثياب اعتكافه لأن أبا قلابة وأبا بكر بن عبد الرحمن وأب مجلز والمطلب بن حنطب وإبراهيم النخعي كانوا يستحبون ذلك ولأنها ليلة تتلو العشر ورد الشرع بالترغيب في قيامها والعبادة فيها فأشبهت ليالي العشر والله سبحانه وتعالى أعلم.
الحج من أركان الإسلام وفروضه لقول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ولما روينا فيما مضى وروى مسلم عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا] فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم] ثم قال: [ذروني ما تركتم] وتجب العمرة على من يجب عليه الحج لقول الله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} ولما روى الضبي بن معبد قال: أتيت عمر فقلت إني أسلمت يا أمير المؤمنين وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما فقال: هديت لسنة نبيك رواه النسائي. ويجب ذلك في العمر مرة لحديث أبي هريرة ولا يجوز لأحد دخول مكة بغير إحرام لما روي عن ابن عباس أنه قال: لا يدخل مكة إلا محرم إلا الحطابين إلا أن يكون دخوله لقتال مباح لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر متفق عليه ودخل أصحابه غير محرمين أو من يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد فلهم الدخول بغير إحرام لحديث ابن عباس فإنه استثنى الحطابين وقسنا عليهم من هو في معناهم ولأن في إيجاب الإحرام عليهم حرجا فينتفي بقول الله تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج}. فإن دخل من يجب عليه الإحرام بغير إحرام فلا قضاء عليه لأنه لو وجب قضاؤه للزمه للدخول للقضاء قضاء فلا يتناها فسقط لذلك.
ولا يجب الحج والعمرة إلا بشروط خمسة: الإسلام والبلوغ والعقل لما تقدم والحرية والاستطاعة لقول الله تعالى: {من استطاع إليه سبيلا} فيدل هذا على أنه لا يجب على غير مستطيع والعبد غير مستطيع لأنه لا مال له ومنافعه مستحقة فهذا أعظم عذرا من الفقير. وهذه الشروط تنقسم ثلاثة أقسام: قسم يشترط للصحة وهو: الإسلام والعقل فلا يصح من كافر ولا مجنون لما ذكرنا في الصوم. وقسم يشترط للإجزاء وهو البلوغ والحرية لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى] رواه الشافعي والطيالسي في مسنديهما ولأنه فعل العبادة وهو من غير أهل الوجوب فلم يجزئه إذا صار من أهل الوجوب كالصبي يصلي ثم يبلغ في الوقت وإن وجد البلوغ أو العتق في الوقوف بعرفه أو قبله أجزأهما عن حجة الإسلام لأنهما أتيا بالنسك حال الكمال فأجزأهما كما لو وجد ذلك قبل الإحرام وإن وجد بعد الوقوف في وقته فرجعا فوقفا في الوقت أجزأهما أيضا لذلك وإن فاتهما ذلك لم يجزئهما لفوات ركن الحج قبل الكمال. الثالث: شرط الوجوب حسب وهو الاستطاعة فلو تكلف العاجز الحج أجزأه ووقع موقعه لأنه إنما سقط عنه رفقا به فإذا تحمله أجزأه كما لو تحمل المريض الصلاة قائما لكن إن كان الحج كلا على الناس لمسألته إياهم وتثقيله عليهم كره له لأنه يضر بالناس بالتزام ما لا يلزمه وإن لم يكن كلا على حد لقوته على المشي والتكسب بصناعة أو معاونة من ينفق عليه فهو مستحب له لقول الله تعالى: {يأتوك رجالا وعلى كل ضامر} ولأنه التزام للطاعة من غير مضرة لأحد فاستحب كقيام الليل.
والاستطاعة من حق البعيد: القدرة الزاد والراحلة لما روى ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: [الزاد والراحلة] قال الترمذي: هذا حديث حسن ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد. والزاد: هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة في ذهابه ورجوعه. فإن وجد ذلك لذهابه دون رجوعه لم يلزمه الحج لأن عليه غربته ضررا ومشقة وغيبة عن أهله ومعاشه. وإن وجد ما يكفيه لذهابه ورجوعه بثمن مثله في الغلاء والرخص أو بزيادة لا تجحف بماله لزمه وتعتبر القدرة على الماء وعلف البهائم في منازل الطريق على ما جرت به العادة ولا يكلف حمل ذلك من بلده لما فيه من المشقة التي لا يمكن تحميلها ويعتبر قدرته على أوعية الزاد والماء لأنه لا يستغنى عنها ويشترط وجدان راحلة تصلح لمثله بشراء أو كراء وما يحتاج إليه من آلتها الصالحة لمثله في محمل أو زاملة أو قتب على ما جرت به العادة مثله وما لا يتخوف الوقوع منه ويكون ذلك فاضلا عما يحتاج إليه لقضاء دين حال ومؤجل ونفقة عياله إلى أن يعود وما يحتاجون إليه من مسكن وخدم لأن هذا واجب عليه يتعلق به حق آدمي فكان أولى بالتقديم كنفقة نفسه. وإن احتاج إلى النكاح لخوف العنت قدم لأنه واجب لدفع الضرر عن نفسه فأشبه النفقة وإن لم يخف وجب الحج لأنه تطوع فلا يسقط به الحج الواجب ومن له عقار يحتاج إليه للسكنى أو إلى أجرته لنفقته أو نفقة عياله أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه ذلك أو آلات لصناعته المحتاج إليها أو كتب من العلم يحتاج إليها لم يلزمه صرفه في الحج لأنه لا يستغنى عنه أشبه النفقة ومن كان من ذلك فاضلا عن حاجته كمن له بكتاب نسختان أو له دار فاضلة أو مسكن واسع يكفيه بعضه فعليه صرف ذلك في الحج ومن لم يكن له مال فبذل له ولده أو غيره مالا يحج به لم يلزمه قبوله وإن بذل له أن يحج عنه أو يحمله لم يلزمه قبوله لأن عليه فيه منة ومشقة فلم يلزمه قبوله كما لو كان الباذل أجنبيا.
فأما المكي ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر فلا يشترط في حقه راحلة ومتى قدر على الحج ماشيا لزمه لأنه يمكنه ذلك من غير مشقة شديدة وإن عجز عن المشي وأمكنه الحبو لم يلزمه لأن مشقته في المسافة القريبة أكثر من السير في المسافة البعيدة.
واختلفت الرواية في ثلاثة أشياء وهي إمكان المسير وهو أن تكمل الشرائط فيه وفي الوقت سعة يتمكن من السير لأدائه وتخلية الطريق وهو أن لا يكون في الطريق مانع من خوف ولا غيره والمحرم للمرأة فروي أنها من شرائط الوجوب لا يجب الحج بدونها لأنه لا يستطاع فعله بدونها فكانت شرطا للوجوب كالزاد والراحلة. وعنه: أنها شروط للزوم الأداء دون الوجوب لأنها أعذار تمنع نفس الأداء فقط فلم تمنع الوجوب كالمرض وإذا قلنا: هي من شرائط الوجوب فمات قبل تحققها فلا شيء عليه كالفقير وإن قلنا: هي من شرائط لزوم السعي فاجتمعت فيه الشرائط الخمس حج عنه كالمريض وإمكان السير معتبر بما جرت به العادة فلو أمكنه السير بأن يحمل على نفسه ما لم تجر به عادة لم يلزمه لأن فيه مشقة وتعزيرا. وتخلية الطريق عبارة عن عدم الموانع فيها بعيدة كانت أو قريبة برا أو بحرا الغالب السلامة فيه فإن لم يكن الغالب السلامة لم يلزمه كالبر إذا كان فيه مانع فإن كان الطريق آمنا لكنه يحتاج إلى خفارة كثيرة لم يلزمه الأداء لأنه كالزيادة على ثمن المثل في شراء الزاد فإن كانت يسيرة؟. فقال ابن حامد: يلزمه لأنها غرامة ممكنة يقف الحج على بذلها فلزمته كثمن الزاد. وقال القاضي: لا يلزمه لأنها رشوة في الواجب فلم تلزمه كسائر الواجبات.
فأما السلامة وكونه على حال يمكنه الثبوت على الراحلة فهو شرط للزوم الأداء خاصة فإن عدم ذلك لمرض لا يرجى برؤه أو كبر أقام من يحج عنه ويعتمر لما روى أبو رزين أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال: [حج عن أبيك واعتمر] وهو حديث حسن فإن برئ بعد أن حج عنه فلا حج عليه لأنه أتى بما أمر به فخرج عن عهدته كما لو لم يبرأ وإن كان مرضه يرجى زواله لم يجز أن يستنيب لأنه يرجو القدرة فلم تكن له الاستنابة كالصحيح الفقير فإن استناب ثم مات لم يجزئه ووجب الحج عنه لأنه حج عنه وهو غير مأيوس منه فلم يجزئه الحج كما لو برئ وهل يجوز لمن يمكنه الحج بنفسه أن يستنيب في حجة التطوع؟ فيه روايتان: إحداهما: يجوز لأنها حجة لا تلزمه أدائها فجاز له الاستنابة فيها كالمغصوب. والثانية: لا يجوز: لأنها عبادة لا تجوز الاستنابة في فرضها فلم تجز في نفلها كالصلاة.
ومن كملت الشرائط في حقه لزمه الحج على الفور ولم يجز له تأخيره لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة] رواه ابن ماجه وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا] رواه الترمذي ولأنه أحد أركان الإسلام فلم يجز تأخيره إلى غير وقته كالصيام.
وحج الصبي صحيح لما روى ابن عباس قال: رفعت امرأة صبيا فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: [نعم ولك أجر] رواه مسلم والكلام فيه في أربع أمور: أحدها: في إحرامه إن كان مميزا أحرم بإذن وليه ولا يصح من غير إذنه لأنه عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد منه بنفسه كالبيع وإن كان غير مميز أحرم عنه وليه الذي يلي ماله ومعنى إحرامه عنه: عقده الإحرام له فيصير الصبي بذلك محرما دون الولي كما يعقد له النكاح فلذلك صح أن يحرم عنه الولي محلا كان أو محرما ممن حج عن نفسه وممن لم يحج فإن أحرمت عنه أمه صح في ظاهر كلام أحمد لأنه قال: يحرم عنه أبواه وهو ظاهر حديث ابن عباس. وقال القاضي: لا يصح لعدم ولايتها على ماله وفي سائر عصباته وجهان بناء على القول في الأم فأما الأجنبي فلا يصح إحرامه عنه وجها واحدا. الثاني: أن ما قدر الصبي على فعله كالوقوف بعرفة ومزدلفة فعليه فعله وما لا يمكنه فعله كالرمي فعله الولي عنه لما روى جابر رضي الله عنه قال: كنا إذا حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لبينا مع الصبيان ورمينا عنهم رواه ابن ماجه وإن أمكنه المشي في الطواف وإلا طيف به محمولا فقد روى الأثرم عن أبي اسحق أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه طاف بابن الزبير في خرقة ولا يرمي عن الصبي إلا من أسقط فرض الرمي عن نفسه. الثالث: أن ما فعله من محظورات الإحرام إن كان مما يفرق بين عمده وسهوه فلا فدية فيه لأن عمد الصبي خطأ وإن كان مما يستوي عمده وسهوه كجزاء الصيد ونحوه ففيه فدية وفي محلها روايتان: إحداهما: تجب في مال الصبي لأنه واجب بجنايته فلزمت كجنايته على آدمي. والثانية: تجب على وليه لأنه أدخله في ذلك وغرر بماله وإن وطىء الصبي أفسد حجه ووجبت البدنة ويمضي في فاسده وعليه القضاء إذا بلغ وهل يجزئه القضاء عن حجة الإسلام ينظر فإن كانت الفاسدة لو صلحت أجزأت وهو أن يبلغ في وقوفها أجزأ القضاء أيضا وإلا فلا. الرابع: أن ما يلزمه من النفقة بقدر نفقته الحضر فهو في ماله لأنه الوالي لم يكلفه ذلك وما زاد ففي محله روايتان كالفدية سواء.
وفي حج العبد وهو صحيح لأنه من أهل العبادات فصح حجه كالحر وإلا فالكلام فيه في أمور أربعة: أحدها: أنه إن أحرم صح إحرامه بإذن سيده وبغير إذنه لأنها عبادة بدنية فصحت منه بغير إذن سيده كالصلاة فإن أحرم بغذن سيده لم يجز تحليله لأنها عبادة تلزمه بالشروع فلم يملك تحليله إذا شرع بإذنه كقضاء رمضان وإن أحرم بغير إذنه فقال أبو بكر: لا يملك تحليله لذلك وقال ابن حامد: له تحليله وهو أصح لأن حق السيد فيه ثابت لازم فلم يملك العبد إبطاله بما لا يلزمه كالاعتكاف فإن أذن له ثم رجع قبل إحارمه فهو كمن لم يأذن فإن لم يعلم العبد برجوعه حتى أحرم ففيه وجهان بناء على الوكيل هو ينعزل بالعزل قبل علمه به؟ على روايتين. الثاني: إذا نذر العبد الحج انعقد نذره لأنه تكليف فانعقد نذره كالحر فإن كان بإذن سيده لم يملك منعه من الوفاء به لأنه أذن في التزامه وإن كان بغير إذنه فله منعه ذكره ابن حامد. وقال القاضي: لا يجوز لأن تجويز ذلك يفضي إلى تمكينه من التسبب إلى إبطال حق سيده فمتى عتق فعليه الوفاء به ولا يفعله إلا بعد حجة الإسلام. الثالث: أن ما جنى العبد مما يوجب الفدية فعليه فديته بالصيام فقط لأنه كالمعسر وأدنى منه فإن ملكه السيد هديا وأذن له في الفدية به وقلنا: إنه يملك فعليه الفدية به وإلا ففرضه الصيام وإن تمتع أو قرن بإذن سيده فهدي التمتع والقران عليه لأن النسك له فكانت الفدية عليه كالزوجة إذا فعلته بإذن زوجها. وقال القاضي: هو على سيده لأنه بإذنه. الرابع: أن العبد إذا وطئ أفسد حجه وعليه المضي في فاسده ويصوم مكان البدنة ثم إن كان الإحرام مأذونا فيه لم يكن لسيده تحليله منه وإن لم يكن مأذونا فيه فله تحليله لأن هذا الإحرام هو الذي كان صحيحا فحكمه في ذلك حكمه.
في حج المرأة ثلاثة أمور: أحدها: أنه لا يحل لها السفر بغير محرم لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم] متفق عليه والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح كابنها وأخيها من نسب أو رضاع وربيبها ورابها فأما عبدها فليس بمحرم لها لأنها تحل له إذا عتق وليس بمأمون عليها ومن حرمت عليه بسبب محرم كالزنا أو وطء الشبهة فليس بمحرم لأن تحريم ذلك بسبب غير مشروع فأشبه التحريم باللعان ونفقة المحرم عليها لأنه من سبيلها فكان عليها نفقته كالراحلة ولا يلزمه الخروج معها إلا أن يشاء لأنه تكلف شديد فلم يلزمه لأجل غيره كالحج عن الغير وإن مات المحرم في الطريق مضت إذا كانت قد تباعدت وإن كانت قريبة رجعت وإن حجت امرأة بغير محرم أساءت وأجزأها حجها كما لو تكلف رجل مسألة الناس والحج. الثاني: أنه ليس للرجل منع زوجته من حج الفرض لأنه واجب بأصل الشرع فأشبه صوم رمضان ويستحب لها استئذانه جمعا بين الحقين وله منعها من حج التطوع لأن حقه ثابت في استمتاعها فلم تملك إبطاله بما لا يلزمها كالعبد فإن أحرمت به فحكمها حكم العبد على ما فصل فيه. الثالث: أنه ليس لها الخروج للحج في عدة الوفاة لأنها واجبة في المنزل تفوت فقدمت على الحج الذي لا يفوت وإن مات زوجها في الطريق بعد تباعدها مضت في سفرها لأنه لا بد من سفرها فالسفر الذي يحصل به الحج أولى وإن كانت قريبة رجعت لتقضي العدة في منزلها.
فمن وجب الحج عليه فمات قبل فعله وجب الحج عنه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج قال: [حجي عن أبيك] رواه النسائي ولأنه حق مستقر تدخل النيابة فلم يسقط بالموت كالدين ويحج عنه من رأس ماله لأنه واجب فكان من رأس المال كالدين.
ويستناب عنه وعن المغصوب من حيث وجب عليهما إما من بلدهما أو من الموضع الذي أيسرا منه ولا يجزئ الحج عنهما من الميقات لأن الحج واجب عليه من بلده فوجب أن تكون النيابة عنه منه لأن النائب يقوم مقامه فيما وجب عليه فيؤدي من حيث وجب. وإن خرج للحج فمات في الطريق استنيب عنه من حيث انتهى إليه لأنه أسقط عنه ما ساره. وإن مات بعد فعل بعض المناسك فعل عنه ما بقي لأن ما جاز أن ينوب عنه في جميعه جاز في جميعه كالزكاة وسواء كان إحرامه لنفسه أو عن غيره فإن لم يخلف الميت تركة تفي بالحج عنه من بلده حج عنه من حيث تبلغ نص عليه أحمد في الوصية بالحج لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا أمرتكم بأمر فأتوا به ما استطعتم] ولأنه قدر على أداء الواجب على القصور فلزمه كمن قدر على الصلاة قاعدا. وذكر القاضي أنه لا يحج عنه لأنه لا يمكن أداء الحج على الكمال والأول أولى.
فإن اجتمع على الميت مع الحج دين آدمي احتمل تقديم الدين لتأكده بحاجة الآدمي إليه وغنى الله عن حقه واحتمل أن يتحاصا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحج عمن عليه حج قال: [أرأيت لو كان على أخيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم قال: فاقض فالله أحق بالوفاء] رواه النسائي فعلى هذا يؤخذ ما يخص الحج فيصنع به ما صنع بتركة من لم يخلف ما يفي بالحجة الواجبة.
ويستناب عن الميت وإن لم يأذن لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالحج عنه ولا إذن له علم أن الإذن غير معتبر ولا يجوز النيابة عن الحي إلا بإذنه لأنه من أهل الإذن فلم تجز النيابة عنه بغير إذنه كأداء الزكاة وتجوز النيابة عنهما بحج التطوع لأن ما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة فأما القادر على الحج بنفسه فلا تجوز له الاستنابة في الفرض لأنه عليه في بدنه فلا ينتقل عنه إلا في موضع الرخصة للحاجة المعلومة وبقي فيما عداه.
ولا يجوز أن ينوب في الحج من لم يسقط فرضه عن نفسه لما روى ابن عباس قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من شبرمة قال: قريب لي قال: هل حججت قط؟ قال: لا قال: فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة] رواه أبو داود ولا يجوز أن يعتمر عن غيره من لم يعتمر عن نفسه قياسا على الحج ولا يجوز أن يتنفل بهما من لم يسقط فرضهما ولا أن يؤدي النذر فيهما وعليه فرضهما لأن التنفل والنذر أضعف من حج الإسلام فلم يجز تقديمهما عليه كالحج عن غيره فإن أحرم عن غيره أو نذر أو نفل قبل فرضه انقلب إحرامه لنفسه عن فرضه. وعنه: يقع عن غيره ونذره ونفله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إنما لامرئ ما نوى] والأول المذهب لحديث ابن عباس في الحج عن غيره ووجود معناه في النذر والنفل ولو أمر المعضوب من يحج عنه طوعا أو نفلا أو نذرا وعليه حجة الإسلام انصرف إليها لأن فعل نائبه كفعله وهكذا إن حج عن الميت نذرا أو نفلا قبل حجة الإسلام وإن استنيب عنهما من يحج النذر والفرض في عام واحد صح لأنه لم يتقدم النذر على حجة الإسلام وأي النائبين أحرم أولا وقع عن حجة الإسلام لتحريم تقديم النذر عليها وإن استنابه اثنان فأحرم عنهما لم يقع على واحد منهما ووقع عن نفسه لأنه يتعذر وقوعه عنهما وليس أحدهما أولى به من الآخر. وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه احتمل ذلك أيضا لذلك واحتمل صحته لأن الإحرام يصح مبهما فصح عن المجهول وله صرفه إلى من شاء منهما فإن لم يصرفه حتى طاف شوطا لم يجز عن واحد منهما لأن هذا الفعل لا يلحقه فسخ وليس أحدهما أولى به من الآخر وإن أحرم عن أحدهما وعن نفسه انصرف إلى نفسه لأنه لما تعذر وقوعه عنهما كان هو أولى به.
|