فصل: مسألة لم قيل الرأى نائم والهوى يقظان ولذلك غلب الهوى الرأى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الهوامل والشوامل***


  مسألة لم قيل الرأى نائم والهوى يقظان ولذلك غلب الهوى الرأى

يروى هذا عن حكيم العرب عامر بن الظرب‏.‏

أليس الرأى من حزب العقل وأوليائه فكيف غلب مع علو مكانه وشرف موضعه وما معنى قول الآخر من الأوائل‏:‏ العقل صديق مقطوع والهوى عدو متبوع ما سبب هذه الصداقة مع هذا العقوق وما سبب تلك العداوة مع تلك المتابعة وهل يرى هذا حقائق الأمور معكوسة منكوسة فإن الظاهر خارج عن حكم الواجب جار على غير النظام الراتب‏.‏

الجواب‏:‏ قال ابو على مسكويه - رحمه الله‏:‏ هذا كلام خرج في معرض فصاحة وخطابة‏.‏

فأما معناه فهو أن الهوى فينا قوى جداً والرأى ضعيف وسبب ذلك أنا - معشر الناس - طبيعيون وجزء الطبيعة فينا أغلب من جزء العقل لأنا في عالم الطبيعة والعقل غريب عندنا ضعيف الأثر فينا ولذلك نكل عند النظر في المعقولات ولا نكل عند النظر في الطبيعيات ذلك الكلال‏.‏

والعقل وإن كان في نفسه شريفاً عالى الرتبة فإن أثره عندنا يسير‏.‏

والطبيعة وإن كانت ضعيفة بالإضافة إلى العقل منحطة الرتبة - فإنها قوية فينا لأنا في عالمها ونحن أجزاء منها ومركبون من عناصرها وفينا قواها أجمع‏.‏

وهذا واضح غير محتاج إلى الإطناب في الشرح‏.‏

فقال له أبو هاشم المتكلم عائباً للمنطق‏:‏ هل المنطق إلا في وزن مفعل من النطق فحدثني‏:‏ أأنصف أبو هاشم وحز الحق أم تشيع وقال ما لا يجوز ان يسمع منه هذا مع محله وشدة توقيه في مقالته فإن البيان عن هذا القدر يأتي على كنائن العلم ويوضح طرق الحكمة‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ أما من طريق الوزن فقد صدق فيه أبو هاشم وأما من طريق الازدراء والعيب - إن كان قصد ذلك - فقد ظلم لأنه لا عيب على العلم إلا من جهة خطأ المخطىء فيه لا من جهة اسمه‏.‏

ولو كايله أبو بشر مكايلة فقال له‏:‏ وهل المتكلم إلا في وزن متفعل من الكلام وتصفح سائر العلوم فقال فيها مثل هذا وقال هل التفقه إلا نفعل من قولك فقهت الشيء وهل النحو إلا مصدر قولك نحوت الشي أى قصدته - لكان هذا مستمراً وما أكثر ما يسمى من العلم لما لا يستحقه رتبته وما أكثر ما يسمى بما يحط من رتبته فلا ذاك ينفع في ذلك العلم ولا هذا يضر في هذا العلم‏.‏

وقد عرفت قوماً سموا أنفسهم المدركين وسموا علومهم الإدراك الحقيقي وهو في غاية البعد من حقائق الأمور وقد سمى قوم أنفسهم المستحقين وأهل الحق وما أشبه ذلك فكانوا فيه مدعين باطلاً‏.‏

  مسألة رأيت رجلاً يسأل شيخاً من أهل الحكمة

فقال له‏:‏ العرب تؤنث الشمس وتذكر القمر فما العلة في ذلك وأى معنى عنوا بهذا الإطباق فإنه إن خلا من العلة جرى مجرى الاصطلاح على غير غرض مقصود‏.‏

فلم يورد ذلك الشيخ شيئاً ولهذا لم أسمه فإن في ذكره مع إظهار عجزه تعريضاً به وتحقيراً لشأنه وما يستحق بهذا اليسير ان يجحد ما يصيب فيه الصواب الكثير‏.‏

فقال السائل‏:‏ فإن المنجمين يذكرون الشمس ويؤنثون القمر‏.‏

وهذا أيضاً من المنجمين اتفاق‏.‏

فأجاب ههنا وقال ما قالوه ولم يعجز عن المسألة الأخرى لقصر باعه في الأدب ولكن لم يحفظ فيها جواباً عن اهل العربية‏.‏

والمعنى فيه خاف ليس من شأن المتمسحين في العلم بل من شأن المتبحرين فيه الخائضين في غماره البالغين إلى قراره وهيهات ذلك العلم عميق البحر عالى الفلك وليس كل قلب وعاء لكل سانح ولا كل إنسان ناطقاً بكل لفظ ولا كل فاعل آتياً بكل عمل‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ أما النحويون فلا يعللون هذه الأمور ويذكرون أن الشيء المذكر بالحقيقة ربما أنثته العرب والمؤنث بالحقيقة ربما ذكرته العرب فمن ذلك أن الآلة من المرأة بعينها التي هي سبب تأنيث كل ما يؤنث هي مذكر عند العرب واما آلة الرجل فلها أسماء مؤنثة‏.‏

فأما العقاب والنار وكثير من الأسماء التي هي أولى الأشياء بالتذكير وهي مؤنثة وأمثالها فكثير‏.‏

ولكن الشمس التي قصد السائل قصدها بعينها فإني أظن السبب في تأنيث العرب إياها أنهم كانوا يعتقدون في الكواكب الشريفة أنها بنات الله - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - وكل ما كان منها أشرف عندهم عبدوه‏.‏

وقد سموا الشمس خاصة باسم الآلهة فإن اللاة اسم من اسمائها فيجوز أن يكونوا أنثوها لهذا الاسم ولاعتقادهم أنها بنت من البنات بل هي أعظمهن عندهم‏.‏

  مسألة هل يجوز لإنسان أن يعي العلوم كلها على افتنانها وطرقها واختلاف اللغات والعبارات عنها فإن كان يجوز فهل يجب وإن وجب فهل يوجد وإن كان وجد فهل عرف وإن كان جائزاً فما وجه جوازه وإن كان الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ أحد الحدود التي حدت بها الفلسفة أنها علم الموجودات كلها بما هي موجودات‏.‏

ولكن ليس على الشرائط التي ذكرتها في مسألتك أعني قولك‏:‏ على افتنانها وطرقها واختلاف اللغات بها والعبارات عنها فإن علماً واحداً من بين العلوم لا يجوز أن يحتوي على جميع هذه الشرائط فيه لأن جزئيات العلوم بلا نهاية وما لا نهاية له لا يخرج إلى الوجود‏.‏

ولكن المطلوب من كل علم هو الوقوف على كلياته التي تشمل على جميع أجزائه بالقوة‏.‏

مثال ذلك أن الطب إذا تعلمت أصوله وقوانينه التي بها يستخرج نوع المرض ونوع العلاج فقد كفي فيه ذلك‏.‏

فأما أن يعرف منه جميع أجزاء الأمراض فذلك محال‏.‏

وكذلك تجد كتب جالينوس وغيره من الأطباء فإنها تعلمك أصول الأمراض والعلاجات فإذا باشرت الصناعة ورد عليك من أجزاء مرض واحد ما لا يمكنك إحصاؤه ويبقى من أجزائه ما لا يمكن أحصاؤه أحداً بعدك‏.‏

وإذا كان الأمر على ذلك فالجواب عن مسألتك يكون مقيداً على ما ذكرته‏.‏

فأما اختلاف الطرق والعبارات فلا معنى لتعاطي معرفتها فإن المقصود من العلوم هي ذواتها وأما قولك‏:‏ هل يجب فأقول‏:‏ إنه واجب لأن التفلسف واجب من أجل أنه كمال الإنسانية وبلوغ أقصى درجتها‏.‏

وكل شيء كان كمال فإن غايته البلوغ إلى ذلك الكمال‏.‏

ومن قصر من الناس عن بلوغ كماله مع حصول الأسباب وارتفاع الموانع عنه فهو غير معذور فيه‏.‏

وأما قولك‏:‏ هل يوجد فإنه موجود لأن الفلسفة موجودة وهي صناعة الصناعات وما تب شيء من أجزائها كما رتبت هي نفسها فإنه قد بدىء من أدنى درجة يبتدىء بها المتعلم إلى أقصى مرتبة يجوز أن يبلغها‏.‏

وهذا لجميعه أصول وشروح على غاية الأحكام وهي معروفة موجودة غير ممنوع منها ولا مضنون بها على من يطلبها وفيه منة لتعلمها‏.‏

  مسألة ما غضب الصارف على المصروف

هكذا تنشأ هذه المسألة وصورتها أنك تولى إمرة بلد أو قضاء مدينة فترد البلد وبه أمير قبلك صرف بك فتعنف به وتغضب عليه وتكلح وجهك في وجهه وهو ما أغضبك ولا ومن جنس هذا الغضب غضب الجلاد والسياف‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ لما كان الصارف يستشعر من المصروف أنه يبغضه ويكرهه لا محالة وفي الطباع أن يكره الإنسان من يكرهه وببغض من يبغضه - عرض هذا العارض لكل صارف على كل مصروف‏.‏

وربما انضاف إلى ذلك أشياء أخر منها أن المصروف ربما صرف عن خيانة أو جناية كثيرة يعرض في مثلها الغضب بالواجب‏.‏

وربما انضاف إلى ذلك أن يؤمر الصارف بالقبض على المصروف وموافقته على جناياته واستصفاء ماله‏.‏

وهذه أشياء تثير الغضب وتزيد في مادته لا سيما والمصروف يحتج لنفسه ويدفع عنها كل ما نسب إليه من القبيح ويدافع عن ماله بما أمكنه‏.‏

فأين يذهب الغضب عن هذا المكان وهل هو إلا في حقيقة موضعه الخاص به فأما الجلاد والسياف فلهما وجه آخر من العذر وهو أنهما إنما يأخذان أجرة على صناعتهما وإن لم يوفياها حقها خشيا اللائمة والاستخفاف وليس يمكنهما توفية صناعتهما حقوقهما إلا بإثارة الغضب‏.‏

  مسألة لم كان اليتم في الناس من قبل الأدب وفي سائر الحيوان من قبل الأم

فإن قلت‏:‏ لأن الأم ههنا كافلة فإن الأمر في الناس كذلك وفيه سر غير هذا ونظر فوقه‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن الإنسان من حيث هو حيوان مشارك للبهائم في هذا المعنى محتاج إلى ما يقيمه من الأقوات التي تحفظ عليه حيوانيته‏.‏

ومن حيث هو إنسان مشارك للفلك في هذا المعنى يحتاج إلى ما يبلغه هذه الدرجة بالتعليم والتأديب لأن الأدب يجري من النفس مجرى القوت من البدن والذي يقوم بالحال الأولى وهي الأم والذي يقوم له بالحال الثانية هو الأب‏.‏

ولما كانت الحالة الثانية أشرف أحواله وهي التي بها يصير هو ما هو اعني أن يصير إنساناً - وجب أن يكون يتمه من قبل أبيه‏.‏

ولما كان سائر الحيوانات كما حيوانيتها في القوت البدني وجب أن يكون يتمها من قبل الأم‏.‏

ولعل الإنسان قبل أن يبلغ حد التعلم من الأب وفي حال حاجته إلى الرضاع إذا فقد أمه سمي يتيماً من قبل الأم ولم يمتنع إطلاق ذلك عليه‏.‏

وأعجز عن رقعة - يعني الشطرنج وهذا معنى شائع في الناس فما السبب فيه فإنه إنما عجب من خفاء السبب‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن الصناعات لا يكتفي فيها بالعلم المتقدم والمعرفة السابقة بها حتى يضاف إلى ذلك العمل الدائم والارتياض الكثير وإلا لم يكن الإنسان ماهراً‏.‏

والصانع هو الماهر بصناعته‏.‏

ومثال ذلك الكتابة فإن العالم بأصولها وإن كان سابق العلم غزير المعرفة إذا اخذ العلم ولم تكن له دربة انقطع فيها ولم ينفعه جميع ما تقدم من علمه بها‏.‏

وكذلك حال الخياطة والبناء‏.‏

وبالجملة كل صناعة مهنية كقيادة الجيش ولقاء الأقران في الحروب ليس تكفي فيها الشجاعة ولا العلم بكيفيتها حتى يحصل فيها الارتياض والتدرب فحينئذ تصير صناعة‏.‏

ولما كان الشطرنج أحد الأشياء الجارية هذا المجرى من الصناعات لم يكتف فيه بالتدبير ولا حسن التخيل ولا جودة الرأى حتى تنضاف إلى ذلك مباشرة الأمر والدربة فيه فإن لكل ضربة يتغير بها شكل الشطرنج ضربة من الرسيل مقابلة لها إما على غاية الصواب وإما بخلافه‏.‏

ويحتاج إلى ضبط جميع ذلك وتخيل تلك الأشكال كلها ضربة بعد ضربة على وجوه تصاريفها وليس ذلك إلا مع دربة ورياضة‏.‏

  مسألة ما السبب في استيحاش الإنسان من نقل كنيته أو اسمه

فقد رأيت رجلاً غير كنيته لضرورة لحقته وحال دعته فكان يتنكر ويقلق وكان يكنى أبا حفص فاكتنى أبا جعفر وكان سببه في ذلك أنه قصد رجلاً يتشيع فكره أن يعرفه بأبي حفص‏.‏

وكيف صار بعض الناس يمقت الشيء لاسمه دون عينه أو للقبه دون جوهره‏.‏

وما النفور الذي يسرع إلى النفس من النبز واللقب‏.‏

وما الشكون الذي يرد على النفس من النعت وما هما إلا متقاربان في الظاهر متدانيان في الوهم‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن المعاني تلزمها الأسماء ويعتادها أهل اللغات على مر الأيام حتى تصير كأنها هي وحتى يشك قوم فيزعمون أن الاسم هو المسمى وحتى زعم قوم أفاضل أن الأسامى بالطباع تصير إلى مطابقة المعاني كأنهم يقولون إن الحروف التي تؤلف لمعنى القيام أو الجلوس أو الكوكب أو الأرض لا يصلح لغيرها من الحروف أن تسمى به لأن تلك بالطبع صارت له‏.‏

واضطر لأجل هذه الدعوى أن يشتغل كبار الفلاسفة في بمناقضتهم ووضع الكتب في ذلك فليس بعجب أن يألف إنسان اسم نفسه حتى إذا غير ظن أنه إنما يغير هو وإذا دعى بغير اسمه فإنما دعى غيره بل يرى كأنما بدل به نفسه‏.‏

ولقد سمعت بعض المحصلين يستشير طبيباً ويخاف فيما يشكوه أنه قد أصابه الماليخوليا فقلت له‏:‏ وما الذي أنكرت من نفسك‏.‏

قال‏:‏ يخيل لي أن يميني قد تحول شمالاً وشمالي يميناً لست أشك في ذلك‏.‏

فلما امتد بي النظر في مساءلته وجدته كان قد تختم في يمينه مدة للتقرب إلى بعض الرؤساء من أصدقائه ثم لما فارقه لسفره اتفقت له إعادة إلى التختم اليسار فعرض له من الإلف والعادة هذا العارض‏.‏

فأعتبر بذلك يسهل جواب مسألتك وتعلم ما في العادة من المشاكلة لما في الطبع‏.‏

فأما كراهة الناس الشيء لأسمه أو للقبه ونبزه فالجواب عنه قريب من الجواب عن هذه المسألة وذلك أن الأسماء والألقاب أيضاً تكره لكراهة ما تدل عليه للعادة الأولى فلو أنك نقلت اسم الفحم إلى الكافور فيما بينك وبين آخر لكان متى ذكر الفحم تصور السواد ولم يمنعه ما انتقل فيما بينه وبينك إلى مسمى آخر أبيض طيب الرائحة وذلك لأجل العادة اللهم إلا أن يكون تركيب الحروف تركيباً قبيحاً والحروف أنفسها مستهجنة فإن الجواب عن ذلك قد مر في صور هذه المسائل مستقصى‏.‏

  مسألة قال أبو حيان لم صار صاحب الهم ومن غلبة عليه الفكر

في ملم يولع بمس لحيته وربما نكت الأرض بإصبعه وعبث بالحصى‏.‏

وقد يختلف الحال في ذلك حتى إنك لتجد واحداً يحب عند صدمة الهم ولوعه الحزن جمعاً وناساً ومجلساً مزدحماً يريغ بذلك تفريحاً ويجد عنده خفا‏.‏

وآخر يفزع إلى الخلوة ثم لا يقع إلا بمكان موحش ونشر ضيق وطريق غامض‏.‏

وآخر يؤثر الخلوة ولكن الخلوة يحن إلى بستان حال وروض مزهر ونهر جار‏.‏

ثم تختلف الحال بين هؤلاء حتى إنك لتجد واحداً عند غاشية ذلك الفكر أصفى طبعاً وأذكى قلباً وأحضر ذهناً وحتى يقول القافية النادرة ويضنف الرسالة الفاخرة وحتى يحفظ علماً جماً ويستقبل أيامه نصحاً وآخر يذهل ويعله ويزول عنه الرأى ويتحير حتى لوهدي ما اهتدى ولو أمر لما فقه ولو نهى لما وبه‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن النفس لا تعطل الجوارح إلا عند النوم الأسباب ليس هذا موضع ذكرها‏.‏

والعقل يستهجن البطالة ولا بد من تحريك الأعضاء في اليقظة إما بقصد وإدارة وبصناعة ولأغراض مقصودة وإما بعبث ولهو وعند غفلة وسهو ولأجل ذلك نهت الشريعة عن الغفلة ونهى الأدب عن الكسل وأمر الناس وسواس المدن بترك العطلة واشتغال الناس بضروب الأعمال‏.‏

ولقباحة العطلة ونفور العقل عنها اشتغل الفراغ بلعب الشطرنج والنرد على سخافتهما وأخذهما من العمر وذهابهما بالزمان في غير طائل فإن الجلوس بلا شغل ولا حركة بغير ضرورة أمر يأباه الناس كافة لما ذكرناه‏.‏

فصاحب الفكر والهم لا تتعطل جوارحه وإنما ينبغي أن يتعود الإنسان بالتأديب حركات جميلة مثل القضيب الذي وضع الملوك وقد ذكره ذلك أيضاً ونسب إلى النزق وجعل في جنس الولع بالخاتم‏.‏

فأما مس اللحية وقلع الزئبر من الثوب فمعدود من المرض لأنة حركة غير منتظمة ولا جارية على سنة الأدب بل هو عبث يدل على أن صاحبه قد احتمل حتى عزب عقله وذهب تمييزه دفعة‏.‏

ولا ينبغي ذلك لمن له تمييز وبه مسكة أن يفعله بل ينبه عليه من نفسه ويتركه إن كان عادته‏.‏

فأما اختلاف الحال في الناس فيمن الاجتماع مع الناس أو يحب الخلوة وغير ذلك مما حكيته وذكرت أقسامه فإن ذلك تابع للمزاج وذاك أن صاحب السوداء والفكر السوداوي يحب الخلوة والتفرد ويأنس بذلك‏.‏

وأما صاحب الفكر الدموي فإنه يحب الاجتماع والناس وربما آثر النزهة والفرجة‏.‏

وأما ما حكيت عمن يصنع الشعر ويصنف الرسالة ويشغل نفسه بالعلوم فجميع ذلك إنما يكون بحسب عادة من يطرقه الفكر فإن كان قبل ذلك ممن يرتاض ببعض هذه الأشياء أو يكثر الفكر فيها فإنه بعد ورود العارض يلجأ إلى ما كان عليه ويعود إلى عادته بنفس ثائرة مضطرة إلى الفكر فينفذ فيما كان فيه‏.‏

ولا بد أن يصير ذلك الفكر من جنس ما دهمه أعني أنه يقول القافية ويصنف الرسالة في ذلك المعنى الذي طرأ عليه لكن يستعين عليه بفكر كأن يتصرف في شعر آخر فيرده إلى الأهم الذي وأما الذي يذهل ويعله ويتحير فهو الذي لم يكن قبل ورود ذلك الشغل عليه ممن لا يرتاض بشعر ولا ترسل ولا عادته أن يلجأ إلى فكره ويستعمله في استخراج الخبايا واللطائف فإذا طرقه عارض يحتاج فيه إلى فكر لم يجده وأصابه من الوله والدهش ما ذكرت‏.‏

  مسألة ما بال أصحاب التوحيد لا يخبرون عن الباري إلا بنفي الصفات

فقيل له‏:‏ بين قولك وابسط فيه إرادتك‏.‏

قال‏:‏ إن الناس في ذكر صفات الله - تعالى - على طريقتين‏:‏ فطائفة تقول‏:‏ لا صفات له كالسمع والعلم والبصر والحياة والقدرة لكنه مع نفي هذه الصفات موصوف بأنه سميع بصير حي قادر عالم‏.‏

وطائفة قالت‏:‏ هذه أسماء لموصوف بصفات هي العلم والقدرة والحياة‏.‏

ولا بد من إطلاقها وتحقيقها‏.‏

ثم إن هاتين الطائفتين تطابقته على أنه عالم لا كالعالمين وقادر لا كالقادرين وسميع لا كالسامعين ومتكلم لا كالمتكلمين‏.‏

وكانت الطائفتان في ظاهر الرأى مثبتة نافية معطية آخذه إلا أن يبين ما يزيد على هذا‏.‏

هذا آخر المسألة‏.‏

والجواب عنها حرفان مع الإيجاز إن ساعد فهم وتبسيط مع البيان إن احتيج إليه في موضعه إن شاء‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ أما قولك‏:‏ الجواب عنها حرفان مع الإيجاز فهو قريب مما قلت وذاك أن كل صفة وموصوف يقع عليه وهم وينطلق به لسان فهو جود من الله تعالى وإبداع له ومن منه امتن به على خلقه وليس يجوز أن يوصف الله - تعالى - بما هو مبدع ومخلوق له‏.‏

فهذا مع الإيجاز كاف‏.‏

ولا بد من أدنى بسط وبيان فنقول‏:‏ إن البرهان قد قام على أن الباري الأول الواحد هو - عز اسمه - متقدم الوجود على كل معقول ومحسوس وأنه أول بالحقيقة أي ليس له شيء يتقدمه على سبيل علة ولا سبب ولا غيرهما‏.‏

وما ليس له علة تتقدمه فوجوده أبداً وما وجوده أبداً فهو واجب الوجود وما كان كذلك فهو لم يزل وما لم يزل فليس له علة فليس بمتركب ولا متكثر لأنه لو كان مركباً أو كان متركباً لكان وقد قلنا إنه أول لم يتقدمه شيء فإذن ليس بمركب ولا متكثر‏.‏

والأوصاف التي يثبتها له من يثبتها ليس تخلو من أن تكون قديمة معه أو محدثة بعده‏.‏

ولو كانت قديمة معه موجودة بوجوده لكان هناك كثرة ولو كانت كثرة لكانت - لا محالة - متركبة من آحاد‏.‏

ولو كانت الآحاد متقدمة أو الوحدة - سيما التي تركبت منها الآحاد - والكثرة متقدمة - لم يكن أولاً وقد قلنا إنه أول‏.‏

ولو كانت أوصافه بعده لكان خالياً منها فيما لم يزل وخلصت له الوحدة‏.‏

وإنما حدث له ما حدث عن سبب وعلة - تعالى الله وجل عما يقولون المبطلون - وقد قلنا إنه لا سبب له ولا علة‏.‏

وأما أطلاقنا ما نطلقه عليه من الجود والقدرة وسائر الصفات فلأن العقل إذا قسم الشيء إلى الإيجاب والسلب أو إلى الحسن والقبيح أو إلى الوجود والعدم - وجب أن ينظر في كل طرفين فينسب الأفضل منهما إليه إن كنا لا محالة مشيرين إليه بوصف مثلاً كأنا سمعنا بالقدرة والعجز وهما طرفان فوجدنا أحدهما مدحاً والآخر ذماً فوجب أن ننسب إليه ما هو مدح عندنا‏.‏

ومع ذلك فينبغي ألا نقيس على هذا القدر أيضاً إلا إذا كان معنا رخصة في شريعة أو إطلاق في كتاب منزل لئلانبتدع له من عندنا ما لم تجربه سنة أو فريضة ونحذر كل الحذر من الإقدام على هذه الأمور‏.‏

ولأنا ضمنا ترك الإطالة في جميع أجوبة هذه المسائل فلنقتصر على هذا النبذ‏.‏

ومن أراد الإطالة والتوسع فيه فليقرأه من موضعه الخاص به من كتابنا الذي سميناه الفوز أو من كتب غيرنا المصنفة في هذا المعنى إن شاء الله‏.‏

  مسألة لم صار الإنسان في حفظ الصواب أنفذ منه في حفظ الخطأ

شاهد هذا أنك لو سمت الغفل أن يتعلم الأدب ويعتاد الصواب في اللفظ كان أخرى بذلك وأجرأ عليه من قاض أو عدل أو أديب عالم تسوم واحداً منهم ان يتخلق بخلق بعض العامة أو يقتدي بلفظه في خطابه وفساده ولهذا تجد مائة ينشدونك لأبي تمام والبحتري ولا تجد ثلاثة ينشدونك للطرمي وأبي العبر‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن الصواب شيء واحد وله سمت يشير إليه فأما الانحراف عن ذلك السمت والخطأ فيه وعنه فأمر لا نهاية له فلذلك لا يمكن ضبطه‏.‏

وإن انحرف عنه منحرف فإنما يكون ذلك منه كما جاء واتفق لا بإشارة من فهم ولا دليل من عقل‏.‏

وحفظ مثل هذا عسير جداً إذ كان الحفظ إنما هو تذكر لصورة قيدها العقل وتلك الصورة هي مقتضى العقل أو رسم من رسوم قوى العقل‏.‏

فالإنسان معان على هذا الرسم بالفطرة ومعان على تذكره - أيضاً - بالفطرة‏.‏

فأما العدول عنه فهو كالعدول عن نقطة الدائرة التي تسمى مركزاً فإن النقطة في الدائرة - التي ليست مركزاً - هي كثيرة بلا نهاية وإنما المحدودة منها على نقطة واحدة أعني التي بعدها من جميع محيط الدائرة بالسواء‏.‏

  مسألة لم صار العروضي ردىء الشعر قليل الماء

والمطبوع على خلافه ألم تبن العروض على الطبع أليست هي ميزان الطبع فما بالها تخون وقد رأينا بعض من يتذوق وله طبع يخطي ويخرج من وزن إلى وزن وما رأينا عروضياً له ذلك‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن المطبوع من المولدين يلزم الواحد ولا يخرج عنه مادام طبعه يطيع ذلك‏.‏

ولكن سمعنا للشعراء الجاهليين المتقدمين أوزاناً لا تقبلها طباعنا ولا تحسن في ذوقنا وهي عندهم مقبولة موزونة يستمرون عليها كما يستمرون في غيرها كقول المرقش‏:‏ لابنه عجلان بالطف رسوم لم يتعفين والعهد قديم وهي قصيدة مختارة في المفضليات ولها أخوات لا أحب تطويل الجواب بإيرادها - كانت مقبولة الوزن في طباع أولئك القوم وهي نافرة عن طباعنا نظنها مكسورة‏.‏

وكذلك قد يستعملون من الزخاف في الأوزان التي تستطيبها ما يكون عند المطبوعين منا مكسوراً وهي صحيحة‏.‏

والسبب في جميع ذلك أن القوم كانوا يجبرون بنغمات يستعملونها مواضع من الشعر يستوى بها الوزن‏.‏

ولأننا نحن لا نعرف تلك النغمات إذا أنشدنا الشعر على السلامة لم يحسن في طباعنا والدليل على ذلك أنا عرفنا في بعض الشعر تلك النغمة حسن عندنا وطاب في ذوقنا كقول الشاعر‏:‏ إن بالشعب الذي دون سلع لقتيلاً دمه ما يطل فإن هذا الوزن إذا أنشد مفكك الأجزاء بالنغمة التي تخصه طاب في الذوق وإذا أنشد كما ينشد سائر الشعر لم يطب في كل ذوق‏.‏

وهذه سبيل الزحاف الذي يقع في في الشعر مما يطيب في ذوق العرب وينكسر في ذوقنا‏.‏

لولا أن الموسيقا مركوزة في الطباع ووزن النغم ومقابلة بعضه بعضاً مجبولة عليه النفس لما تساعدت النفوس كلها على قبول حركات أخر بعينها‏.‏

وتلك الحركات المقبولة هي النسب التي يطلبها الموسيقي ويبني عليها رأيه وأصله‏.‏

والعروضي إنما يتبع هذه الحركات والسكنات التي في كل بيت فيحصلها بالعدد وبالأجزاء المتقابلة المتوازنة‏.‏

فإن نقص جزء من الأجزاء ساكن أو متحرك فإنما يجبره المنشد بالنغمة حتى يتلافاه‏.‏

فمتى ذهب عنه ذلك لم يستقم في ذوقه ولم يساعد عليه طبعه‏.‏

فأما من نقص ذوقه في العروض فإنما ذلك للغلط الذي يقع له في بعض الزحافات التي يجيزها العروض وله مذهب عند العرب فيقع لصاحب الذوق الذي لا يعرف تلك النغمة التي تقوم بذلك الزحاف - أنه جائز في كل موضع فيغلط من ههنا ويتهم أيضاً طبعه حتى يظن أن المنكسر من الشعر أيضاً هو في معنى المزاحف وأنه كما لم يمتنع المزحوف من الجواز كذلك لا وهذا غلط قد عرف وجهه ومذهب صاحبه فيه‏.‏

وأما واضع العروض فقد كان ذا علم بالوزن وصاحب ذوق وطبع فاستخرج صناعة من الطباع الجيدة تستمر لمن ليست له طبيعة جيدة في الذوق ليتمم بالصناعة تلك النقيصة‏.‏

وكذلك الحال في صناعة النحو والخطابة وما يجري مجراها من الصنائع العلمية‏.‏

وليس يجري صاحب الصناعة وإن كان ماهراً في صناعته - مجرى الطبع الجيد الفائق‏.‏

  مسألة ما معنى قول بعض القدماء العالم أطول عمراً من الجاهل بكثير

وإن كان أقصر عمراً عنه‏.‏

ما هذه الإشارة والدفنية فإن ظاهرها مناقضة‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ قد تبين من مباحث الفلسفة أن الحياة على نوعين‏:‏ أحدهما حياة بدنية وهي البهيمية التي تشاركنا فيها الحيوانات كلها‏.‏

وحياة نفسية وهي الحياة الإنسانية التي تكون بتحصيل العلوم والمعارف‏.‏

وهذه هي الحياة التي تجتهد الأفاضل من الناس في تحصيلها‏.‏

فالواجب أن يظن بالجاهل الذي يحيا حياة بدنية أنه ليس بحي بتة أعني أنه ليس بإنسان ولا فأما العالم فالواجب أن يقال فيه‏:‏ إنه هو الحي بالحقيقة كما أن غيره هو الميت‏.‏

  مسألة لم صارت بلاغة اللسان أعسر من بلاغة القلم

وما القلم واللسان إلا آلتان وما مستقاهما إلا واحد فلم نرى عشرة يكتبون ويجيدون ويبلغون وثلاثة منهم إذا نطقوا لا يجيدون ولا يبلغون والذي يدلك على قلة بلاغة اللسان إكبار الناس البليغ باللسان أكثر من إكبارهم البليغ بالقلم‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ ذلك لأن البلاغة التي تكون بالقلم تكون مع روية وزمان متسع للانتقاد والتخير والضرب والإلحاق وإجالة الروية لإبدال الكلمة بالكلمة‏.‏

ومن تبادل بالكلام متى لم يكن لفظه ومعناه متوافيين عرض له التتعتع والتلجلج وتمضغ الكلام وهذا هو العي المكروه المستعاذ منه‏.‏

فأما البليغ فهو حاضر الذهن سريع حركة اللسان بالألفاظ التي لا يقتصر منها أن يبلغ ما في نفسه من المعنى حتى تتفرغ له قطعة من ذلك الزمان السريع إلى توشيح عبارته وترتيبها باختيار الأعذب قالأعذب وطلب المشاكلة والموازنة والسجع وكثير مما يحتاج في مثله إلى الزمان الكثير والفكر الطويل‏.‏

من بين هذا الحيوان فقد قال أبو زيد البلخي الفلسفي كلاماً سأحكيه‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ هذا الرجل الفاضل الذي ذكرته إذا كان يوجد له كلام في هذا المعنى فالأولى بنا أن نستعفيك الكلام فيه‏.‏

وإذا كنت غير معفينا فالأولى أن نكتفي بالإيماء إلى المعنى دون الإطالة فنقول‏:‏ إن الحرارة إذا كانت مادتها لطيفة مواتية في الرطوبة والاستجابة إلى الامتداد فهي تمد الجسم الذي تعلقت به إلى جهتها - أعني العلو - مداً مستقيماً‏.‏

وإنما يعرض الانكباب والميل إلى جهة الأرض لشيئين‏:‏ إما لضعف الحرارة وإما لقلة استجابة المادة التي تعلقت بها‏.‏

وأنت تتبين ذلك وتتأمله في الأشجار التي بعضها ينشعب بشعب مر جحنة نحو الأرض‏.‏

وبعضها ممتدة على جهة الاستقامة إلى فوق‏.‏

وبعضها مركبة الحركة بحسب مقاومة المادة لأن حركة الشيء المركب وما كان من الشجر والنبات ممتداً على وجه الأرض غير منتصب فهو لكثرة الأجزاء الأرضية فيه ولضعف الحرارة وما كان الشجر منتصباً وقد تشعبت منه نحو الأرض ويميناً وشمالاً فلأن حركة النار والأرض قد تركبتا فحدث منهما هذا الشكل المركب بين الانتصاب والارجحنان‏.‏

وما كان الشجر ممتداً كالقضيب إلى فوق كالسرو وما أشبهه فلأن أجزاءه الأرضية والرطوبة المائية فيه لطيفة والحرارة قوية فلم يمتنع من الحركة المستقيمة التي تحركها النار‏.‏

وإذا تأملت حق التأمل هذه الأمثلة لم يعسر عليك نقلها إلى الحيوان إن شاء الله‏.‏

  مسألة لم صار اليقين إذا حدث وطرأ لا يثبت ولا يستقر والشك إذا عرض أرسى وربض يدلك على هذا أن الموقن بالشيء متى شككته نزا فؤاده وقلق به والشاك متى وقفت به وأرشدته وأهديت الحكمة إليه لا يزداد إلا جموحاً ولا ترى منه إلا عتواً ونفوراً‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ أظن السائل عن اليقين لم يعرف حقيقته وظن ان لفظة اليقين تدل على المعرفة المرسلة أو على الإقناع اليسير‏.‏

وليس الأمر كذلك فإن مرتبة اليقين أعلى مرتبة تكون في العلم وليس يجوز أن يطرأ عليه شك بعد أن صار يقيناً‏.‏

وكذلك من علم أن زوايا المثلث مساوية لقائمتين ليس يجوز أن يشك فيه‏.‏

وهذه سبيل العلوم المتيقنة بالبراهين وبالأوائل التي بها تعلم البراهين‏.‏

فأما ما دون اليقين فمراتبه كثيرة على ما بين في كتاب المنطق‏.‏

والشكوك تعترض كل مرتبة بحسب منزلتها من الإقناع‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك فليس يرد قلب المتيقن - أبداً - شك ينزو منه فؤاده بل قار وادع لا تحرك منه الشكوك بتة‏.‏

فأما ما ذكرته من أن الشاك إذا أرشد وأهديت له الحكمة لا يزداد إلا جموحاً فإن ذلك يعترض لأحد شيئين‏:‏ إما لأن المرشد لم يتأت للشاك ولم يدرجه إلى الحكمة فحمله ما لا يضطلع به وإما لأن الحكيم ربما نهى عن أشياء يميل إليها الطبع بالهوى‏.‏

وقد علمت بما بيناه فيما تقدم أن تقدم أن قوى الهوى أغلب وأقوى فينا من قوى العقل فيصير حاله حال من يجدنه حبلان أحدهما ضعيف والآخر قوى - لا محالة - يستجيب للأقوى إلى أن تقوى عزيمته على الأيام فيضعف القوى ويقوى الضعيف كما أشار به الحكماء وشرعه الأنبياء‏.‏

والمضحك إذا لم يضحك - أكثر من ضحكهم منه إذا ضحك وهذا عارض موجود في كل من ألهاك ولم يضحك‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن من شأن المضحك أن يتطلب أموراً معدولة عن جهاتها ليستدعي بذلك تعجب السامع وضحكه‏.‏

وإذا لم يضحك هو إنما يدل من نفسه أنه متماسك غير مكترث للسبب الذي من شأنه أن يعجب منه ويضحك فيتضاد الحال بالتسامع حتى يقترن إلى السبب الأول السبب الثاني‏.‏

  مسألة ما معنى قول العلماء على طبقاتهم النادر لا حكم له هكذا تجد الفقيه والمتكلم والنحوي والفلسفي‏.‏

فما سر هذا وما علمه وعلته ولم إذا ندر خلا من الحكم وإذا شذ عرى من التعليل‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ ليس الأمر على ما ظننته من أن جميع الطبقات من العلماء يستعملون هذه اللفظة‏.‏

وإنما يستعملها منهم من كانت طبقته في العلوم المأخوذة من التصفح والآراء المشهورة فإن هذه أوائل عند قوم في علومهم‏.‏

وأعني بقولي أوائل أي أنهم يجعلونها مبادىء مسلمة بمنزلة الأشياء الضرورية من مبادىء الحس والعقل فإذا فعلوا ذلك لم يخل من أن يرد عليهم ما يخالف أصولهم فيجعلونه نادراً وشاذاً مثال ذلك‏:‏ أنه تصفح رجل منهم يوماً في السنة كيوم السبت من كانون أنه يجىء فيه مطر وبقي إلى ذلك سنين - حكم بأن هذا واجب لا بد منه‏.‏

فإن انتقض عليه ذلك زعم أنه شاذ نادر‏.‏

وكذلك من يتبرك بيوم في الشهر ويتشاءم بآخر كما تفعله الفرس بأول يوم من شهرهم المسمى هرمز وبآخر يوم المسمى بانيران فإنه لا يزال يحكم بأن هذا على الوتيرة فإن انتقض قالوا هذا شاذ ونادر‏.‏

وكذلك حال من حكم بحكم مأخوذ من أوائل غير طبيعية وغير ضرورية فإنه غير مستمر له استمرار العلوم المبرهنة المأخوذة الأوائل من الأمور الضرورية‏.‏

وأنت ترى ذلك عياناً ممن لا يعرف علل الأشياء ولا أسبابها من جمهور الناس فإن أحدهم إذا رأى أمراً حدث عند حضور أمر آخر نسبه إليه من غير أن يبحث هل هو علته أم لا‏.‏

وذلك أنه إذا رأى حالاً تسره عند حضور زيد زعم أن سبب ذلك الحال زيد‏.‏

فإن اتفق حضور زيد مرة أخرى واتفقت له حال أخرى سارة قوى ظنه وزادت بصيرته وكذلك تكون الحال في أكثر أمور هذا الصنف من الناس‏.‏

لا جرم أنه متى انتقض الأمر زعموا أنه شاذ‏.‏

ولهذه الحال عرض كثير وذلك أنه ربما مازج أسباباً صحيحة كما يحكم في الشتاء أنه يجيء مطر يوم كذا لأنه كذلك اتفق في العام الماضي‏.‏

فلأن الوقت شتاء ربما اتفق ذلك مراراً كثيرة ولكن ليس سبب المطر ذلك اليوم بل له أسباب أخر وإن اتفق فيه‏.‏

فأما الرجل الفلسفي فإنه إذا تشبه بغيره أو أخذ مقدماته من مثل تلك المواضع عرض له - لا محالة - ما عرض لغيره‏.‏

ولذلك وجب أن تنزل الأمور منازلها فما كان منها ذا برهان لم يتغير ولم ينتظر ورود ضد عليه ولا شك فيه‏.‏

وإذا كان غير ذي برهان إلا أن له دليلاً مستمراً صحيحاً سكن إليه وثق به‏.‏

فأما ما ينحط إلى الإقناعات الضعيفة فينبغي ألا يسكن إليه ولا يوثق به وانتظر أن ينقضه شيء طارىء عليه ولم يمتنع من الشكوك والاعتراضات عليه‏.‏

أنه لا يجوز أن يتفق أن يمس أهل محلة لحاهم في ساعة واحدة وفصل واحد وحال واحدة‏.‏

وإن جاز هذا فهل يجوز في جميع من في العالم وإن كان لا يجوز أن يتفق هذا فما علته فإن المتكلم سكت عند الأولى حين ذكر اليقين والضرورة‏.‏

ولعمري إن الغشاء حق ولكن العلة باقية‏.‏

وسيمر بيان ذلك على حقيقته في الشوامل إن شاء الله‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن الكلام على الواجب والممتنع والممكن قد استقصاه أصحاب المنطق وبلغ صاحب المنطق فيه الغاية‏.‏

والذي يليق بهذا الموضع هو أن يقال‏:‏ إن الواجب من الأمور هو الذي يصدق فيه الإيجاب ويكذب فيه السلب أبداً‏.‏

والممتنع ما يكذب فيه الإيجاب ويصدق فيه السلب أبداً‏.‏

والممكن ما يصدق فيه الإيجاب أحياناً ويكذب فيه أحياناً ويكذب فيه السلب أحياناً ويصدق أحياناً‏.‏

فإذا كانت طبائع هذه الأمور مختلفة فمسألتك هذه من طبيعة الممكن‏.‏

فإن جوز فيه أن يكون جميع الناس يفعلونه في حال واحدة ضير من طبيعة الواجب‏.‏

وأيضاً فإن أرسططاليس قد تبين أن المقدمات الشخصية في المادة الممكنة والزمان المستقبل لا تصدق معاً ولا تكذب معاً ولا تقتسم الصدق والكذب مثال ذلك زيد يستحم غداً ليس يستحم زيد‏.‏

فإن هاتين المقدمتين ليس يجوز أن تصدقا معاً لئلا يكون شيء واحد بعينه موجوداً وغير موجود‏.‏

ولا يجوز أن تكذبا معا لئلا يكون شيء واحد موجوداً وغير موجود ولا يمكننا أن نقول إنهما تقتسمان الصدق والكذب لئلا يرفع بذلك الممكن‏.‏

وهذا قول محير فلذلك ألطف أرسططاليس فيه النظر فقال‏:‏ إن الشيء الممكن إنما يصدق عليه الإيجاب أو السلب على غير تحصيل‏.‏

والشيء الواجب والممتنع يصدق عليهما الإيجاب والسلب على تحصيل‏.‏

أعني أنه إنما يقتسم الصدق والكذب المقدمات الممكنة بأن توجد على طبيعتها الإمكانية‏.‏

فأما الضرورية فإنها تقتسم الصدق والكذب على أنها ضرورية‏.‏

وهذا كلام بين واضح لمن ارتاض بالمنطق أدنى رياضة‏.‏

ومن أحب أن يستقصيه فليعد إليه في مواضعه يجده شافياً‏.‏

فقيل له‏:‏ أيستمر القياس في جميع ما يذهب إليه من الألفاظ فقال‏:‏ لا‏.‏

فقال السائل‏:‏ فينكسر القياس في جميع ذلك فقال‏:‏ لا‏.‏

فقيل له‏:‏ فما السبب فقال‏:‏ لا أدري ولكن القياس يفزع إليه في موضع ويفزع منه في موضع‏.‏

وعرضت هذه المسألة على فيلسوف فأفاد جواباً سيطلع عليك مع إشكاله إن شاء الله‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ أما قياس النحو فليس مبيناً على أوائل ضرورية فلذلك لا يستمر وإنما أجاب هذا الرجل العالم بالنحو عن القياس الذي يخص صناعته ولم يلزمه إلا ذلك‏.‏

فأما الفيلسوف فقياساته كلها مستمرة لا ينكسر منها شيء لا سيما ضرب من القياس وهو المسمى برهاناً‏.‏

وقد تقدم - في المسألة المتقدمة إن النادر لا حكم له كلام يصلح أن يجاب به ههنا فلتعد إليه إن شاء الله‏.‏

  مسألة سأل سائل هل خلق الله - تعالى - العالم لعلة أو لغير علة

فإن كان لعلة فما هي وإن كان لغير علة فما الحجة الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ ليس يجوز أن يقال‏:‏ إن الله خلق العالم لعلة لما تقدم من قولنا إن العلة سابقة للمعلول بالطبع‏.‏

فإن كانت العلة أيضاً معلولة لزم أن تكون لها علة تتقدمها‏.‏

وهذا مار بغير نهاية وما لا نهاية له يصح وجوده‏.‏

فإذن لا بد من أن يقال أحد شيئين‏:‏ إما أن العلة لا علة لها وإما أن العالم لا علة له غير ذات الباري - تعالى ذكره - فإن قيل‏:‏ إن للعالم علة غير ذات الباري - تعالى - فإن تلك العلة لا علة لها‏.‏

فيجب من ذلك أن تكون العلة أزلية لأنها واجبة الوجود‏.‏

وإذا كانت كذلك لزم فيها جميع ما سلم في ذات الباري - تعالى - ولو كان كذلك أولاً لم يزل‏.‏

وقد قلنا في الباري - تعالى - ذلك بالبراهين التي تأدت إلى القول به‏.‏

وليس يجوز ان يكون شيئان لهما هذا الوصف أعني أن كل واحد منهما اول لم يزل‏.‏

وذلك أنه لا بد أن يتفقا في شيء صار كل واحد منهما أول وأن يختلفا في شيء به صار كل واحد منهما غيراً لصاحبه‏.‏

وذلك الشيء الذي اشتركا فيه والذي تباينا به لا بد أن يكون فصلاً مقوماً أو مقسماً فيصير فالجنس متقدم على النوع بالطبع‏.‏

والنوع الذي يلزمه فصل مقوم ليس بأول لأنه مركب من ذات وفصل مقوم‏.‏

والمركب متأخر عن بسيطه الذي تركب منه‏.‏

فهذه أحوال يناقض بعضها بعضا ولا يصح معها أن يدعى في شيئين أن كل واحد منها اول لم يزل‏.‏

وشرح هذا المعنى وإن طال فهو عائد إلى هذا النبذ الذي يكتفي به ذو القريحة الجيدة والذكاء التام‏.‏

  مسألة لم يضيق الإنسان في الراحة إذا توالت عليه وفي النعمة إذا حالفته

وبهذا الضيق يخرج إلى المرح والنزوان وإلى البطر والطغيان وإلى التحكك بالشر والتمرس به حتى يقع في كل مهوى بعيد وفي كل امر شديد‏.‏

ثم يعض على أنامله غيظاً على نفسه بسوء اختياره وأسفاً على تركه محمود الرأى ومجانبته نصيحة الناصحين مع ما يجد من الألم في صدره من شماتة الشامتين‏.‏

أي أطفاه الشبع وأبطرته الكفاية وأترفته النعمة حتى بطر وأشر واضطرب وانتشر‏.‏

ومن أجل ذلك قال بعض السلف الصالح‏:‏ العافية ملك خفي لا يصبر عليها إلا ولى ملهم أو نبي مرسل‏.‏

هذا والناس مع اختلافهم يحبون العافية ويميلون إلى الراحة ويعوذون من الشر ومما يورث منه ويستعقب عنه‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ السبب في ذلك ان الراحة إنما تكون عن تعب تقدمها لا محالة‏.‏

وجميع اللذات يظهر فيها أنها راحات من آلام‏.‏

وإذا كانت الراحة إنما تكون عن تعب فهي إنما تستلذ وتستطاب ساعة يتخلص من الشيء المتعب‏.‏

فإذا اتصلت الراحة وذهب ألم التعب لم تكن الراحة موجودة بل بطلت وبطل معناها‏.‏

ومع بطلانها بطلان اللذة‏.‏

ومع بطلان اللذة غلط الإنسان في الشوق إلى اللذة التي يجهل حقيقتها‏.‏

أعني أنه يشتاق إلى معنى اللذة ويجهل أنها راحة من ألم‏.‏

وهذا المعنى إذا لاح للعالم به وتبينه لم يشتق إلى اللذة بتة وصار قصاراه إذا آلمه الجوع أن يداويه بالدواء الذي يسمى الشبع لا أنه يقصده اللذة نفسها بل يرى اللذة شيئاً تابعاً لغرضه لا أنها مقصودة الأول ولذلك يزهد العالم في الأشياء البدنية أعني الدنيوية وهي ما يتصل بالحواس وتسمى لذيذة‏.‏

فأما الجاهل فلأنه يعترض له ما ذكرناه بالضرورة صار يقع فيه دائماً فيحصل في هموم وآلام وامراض لا نهاية لها‏.‏

وعاقبه جميع ذلك الندم والأسف‏.‏

  مسألة لم صار بعض الأشياء تمامه أن يكون غضاً طرياً ولا يستحسن

ولا يستطاب إلا كذلك وبعض الأشياء لا يختار ولا يستحسن إلا إذا كان عتيقاً قديماً قد مر عليه الزمان ولم لم تكن الأشياء كلها على وجه واحد عند الناس وما السبب في انقسامها على هذين الوجهين ففيه سر‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ لما كانت كمالات الأشياء المختلفة أعني ان بعضها تتم صورته التي هي كماله في زمان قصير وبعضها تتم صورته في زمان طويل - كان انتظار الإنسان للكمال منها وتفضيله إياها بحسبه‏.‏

ولما كان الشيء يبتدىء وينتهي إلى الكمال ثم ينحط حتى يتلاشى ويعود إلى ما منه بدأ - كان أفضل أحواله وقت انتهائه إلى الكمال‏.‏

فأما حين صعوده إليه أو انحطاطه عنه فحالان ناقصان وإن كانت الأولى أفضل من الثانية‏.‏

ولما كانت هذه القضية مستمرة فيما كان في عالمنا هذا أعني عالم الكون والفساد - وجب من ذلك أن تكون استطابة الناس واستحسانهم لصورة الكمال في واحد واحد من الأشياء المختلفة أيضاً مختلفاً لأجل ما ذكرناه‏.‏

  مسألة لم صار الإنسان إذا صام أو صلى زائداً عن الفرض المشترك فيه

حقر غيره واشتط عليه وارتفع على مجلسه ووجد الخنزوانة في نفسه وطارت النعرة في أنفه حتى كأنه صاحب الوحي أو الواثق بالمغفرة والمنفرد بالجنة‏.‏

وهو مع ذلك يعلم أن العمل معرض للآفات وبها يحبط ثواب صاحبه ولهذا قال الله - تعالى - ‏{‏وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا‏}‏ ولما يعرض له من هذا العارض علة ستنكشف في جواب المسألة وكان بعض أصحابنا يضحك بنادرة في هذا الفصل قال‏:‏ أسلم يهودى غداة يوم فما أمشى حتى ضرب مؤذناً وشتم آخر وغضب على آخر‏.‏

فقيل له‏:‏ ما هذا أيها الرجل فقال‏:‏ نحن معاشر القراء فينا حده‏!‏‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ كل من استشعر في نفسه فضيلة وكان هناك نقصان من وجه آخر وخشى أن تنكتم تلك الفضيلة أو لا يعرفها غيره منه - عرض له عارض الكبر لأن معنى الكبر هو هذا‏.‏

أي أن صاحبه يلتمس من غيره أن يذعن له بتلك الفضيلة ويعرفها له‏.‏

فإذا لم يعرفها تحرك ضروب الحركة المضطربة ولهذا صدق القائل‏:‏ ما تكبر أحد إلا عن ذلة يجدها في نفسه‏.‏

وإنما السلامة من هذا العارض هو أن يلتمس الإنسان الفضيلة لنفسه لا لشيء آخر أكثر من أن يصير هو بنفسه فاضلاً لأن يعرف ذلك منه أو يكرم لأجله‏.‏

فإن اتفق له أن يعرف فشيء موضوع في موضعه وإن لم يعرف له ذلك لم يلتسمه من غيره ولم يكترث لجهل غيره به‏.‏

ولأجل محبة الكرامة تعرض قوم للمتالف وعرض لقوم الصلف ولآخرين الهرب من الناس إلى غير ذلك من المكار‏.‏

والذي يجب على العاقل هو أن يلتمس الفضائل في نفسه ليصير بها على هيئة كريمة ممدوحة في ذاته أكرم أم لم يكرم وعرف ذلك له أم لم يعرف‏.‏

ويجعل مثاله في ذلك الصحة فإن الصحة تطلب لذاتها ويحرص المرء عليها ليصير صحيحاً حسب لا ليعتقد فيه ذلك ولا ليكرم عليها‏.‏

وذلك إذا جعلت له صحة النفس بحصول الفضائل لا ينبغي أن يطلب من الناس أن يكرموه لها ولا أن يعتقدوا فيه ذلك‏.‏

ومتى خالف هذه الوصية وقع في ضروب من الجهالات التي أحدها الكبر والحالة التي وصفت‏.‏

  مسألة حكى بعض أصحابنا

أن الرشيد قال لإسحاق الموصلي كيف حالك مع الفضل بن يحيى وجعفر بن يحيى فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أما جعفر فإني لا أصل إليه إلا على عسر فإذا وصلت إليه قبلت يده فلا يلتفت إلى بطرف ولا ينعم لي بحرف‏.‏

واما الفضل فإني ما أغشى بابه إلا ويتلقاني ويهش لي ويخصني ويسألني عن دقيق أمري وجليله ويصحبني من بشره وطلاقة وجهه وتهلله ورقة نغمته - ما يغمرني ويعجزني عن الشكر وأبقى خجلاً في أمره وليس غير ذلك‏.‏

فقال الرشيد عند هذا الحديث‏:‏ يا أبا إسحاق فأيهما عندك آثر وفعل أيهما من نفسك أوقع فقال‏:‏ فعل الفضل‏.‏

هذا آخر الحكاية‏.‏

وموضع المسألة منها‏:‏ ما السبب في تشريف إسحاق فعل الفضل دون فعل جعفر والفضل مبذولة عرض لا بقاء له ولا منفعة به‏.‏

ومبذول جعفر جوهر له بقاء والحاجة إليه ماسة والرغبات به منوطة والآمال إليه مصروفة‏.‏

الدليل على ذلك أنك لا تجد طالباً في الدنيا لبشر رجل ولا ضارباً في الأرض لبشاشة إنسان‏.‏

وأنت ترى البر والبحر مترعين بمنتجعي المال وأبناء السؤال وخدم الآمال عند الرجال‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ أما الحكاية فأظنها مقلوبة‏.‏

وذلك أن الموصوف بالكبر هو الفضل وهو صاحب الشرف في العطاء وأما جعفر فهو إلا أن المتفق عليه أن إسحاق فضل صاحب الطلاقة - وإن كان في الأكثر خالياً من بره على صاحب البر والعطاء الجزيل لما قرنه بالكبر والتيه‏.‏

والناس على تفاوت عظيم في الموضع الذي سألت عنه وتعجبت منه‏.‏

وذلك أن منهم المحب للثروة واليسار ومنهم المحب للكرامة والجاه‏.‏

فأما محب الثروة فقد يحب الجاه والكرامة ولكن ليكتسب بهما مالاً‏.‏

وأما محب الجاه والكرامة فقد يحب المال والثروة ولكن ليكتسب جاهاً وينال كرامة‏.‏

وكل طائفة من هاتين الطائفتين تزعم أنها هي الكيسة وأن صاحبتها هي الغافلة البلهاء‏.‏

والصحيح من ذلك ان كل واحد منهما ينازع إلى أمر طبيعي وإن كان قد مال السرف بهما جميعاً إلى الإفراط وذاك أن المال ينبغي أن يعتدل في طلبه ويكتسب من وجهه ثم ينفق في موضعه‏.‏

فمتى قصر في أحد هذه الوجوه صار شرها وأورث ذلة وكسب بخلاً وإثماً‏.‏

وأما الكرامة فينبغي أن تكون في الإنسان فضيلة يستحق بها أن يكرم لا أن تطلب الكرامة بالعسف أو بالكبر الذي ذممناه فيما تقدم من المسائل آنفاً‏.‏

فإذا كان الأمر على ما ذكرناه وكانت الكرامة تابعة للفضيلة فالكرامة أشرف من المال تتبعه وبالجملة فإن المال ليس بمطلوب لذاته بل هو آلة يوصل به إلى المآرب والأشجان الكثيرة‏.‏

وإنما يحب لأنه بإزاء جميع المطلوبات أي به يتوصل إلى المحبوبات فأما في نفسه فهو حجر لا فرق بينه وبين غيره إذا نزعت عنه هذه الخصلة الواحدة‏.‏

فأما الكرامة فقد تطلب لذاتها إذا كان الطالب لها من جهة الاستحقاق بالفضيلة وذلك لما تحصل عليه النفس من الالتذاذ الروحاني والسرور النفساني‏.‏

وإن كانت من جهة النفس الغضبية فإن هذه النفس وإن كانت دون الناطقة فإنها فوق النفس البهيمية التي تلتذ اللذات البدنية التي تشارك فيها النبات والخسيس من الحيوانات‏.‏

فأما قولك‏:‏ إنك تجد محبي المال أكثر من محبي الكرامة فكذا يجب أن يكون لأن أكثر الناس هم الذين يشبهون البهائم وإنما يتميز القليل منهم بالفضائل‏.‏

فكما أن المتميزين بفضائل النفس الناطقة من القليل فكذلك المتميزون بفضائل النفس الغضبية أقل من الجمهور‏.‏

  مسألة ما بال خاصة الملك والدانين منه والمقربين إليه لا يجري من ذكر الملك على ألسنتهم مثل ما يجري على ألسنة الأباعد منه

مثل البوابين والشاكرية الساسة فإنك تجد هؤلاء على غاية التشيع بذكره ونهاية الدعوى في الإشارة إليه والتكذب عليه‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ لسببين‏:‏ أحدهما أن الأقربين إلى الملوك هم المؤدبون المستصلحون لخدمتهم‏.‏

وفي جملة الآداب التي أخذوا بها ترك ذكر الملك فإن في ذكرهم إياه ابتذالاً له وانتهاكاً لهيبته وهتكاً لحرمته‏.‏

فأما أولئك الطبقة فلسوء آدابهم لا يميزون ولا يأبهون لما ذكرته فهم يجرون على طباع العامة اللائقة بهم في الافتخار بما لا أصل له وادعاء ما لا حقيقة له ولظنهم أنهم ينالون بذلك كرامة ومحلاً عند أمثالهم‏.‏

وأما السبب الآخر فخوف حاشية الملك من عقوبته فإن الملك يعاقب على هذا الذنب ويراه سياسة له لئلا يتعدى ذاكروه إلى إفشاء سر وإخراج حديث لا ينبغي إخراجه‏.‏

  مسألة ما الشبهة التي عرضت لابن البصري فيما تفرد به من مقالته

حين زعم أن الله - تعالى - لم يزل ناظراً إلى الدنيا رائياً لها مدركاً فإن شغبه وشغب ناصريه وأصحابه قد كثر بين العلماء‏.‏

فما وجه باطله إن كان قد أبطل وما وجه الحق إن كان قد حقق‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ أما شبهة صاحب هذه المقالة فمركبة وذلك أنه لحظ إدارك الحي منا فوجده بنوعين‏:‏ أحدهما عقلي والآخر حسي‏.‏

والحسي منه وهمي ومنه بصري‏.‏

فأما الحسي البصري فإنما يدرك المبصر بآلة ذات طبقات ورطوبات وقصبة مجوفة ذاتية من بطن الدماغ ويحتاج إلى جرم مستشف يكون بينه وبين المبصر وإلى ضوء معتدل ومسافة معتدلة وألا يكون بينهما حاجز ولا مانع‏.‏

وأما الوهم فقد ذكرنا من أمره أنه يتبع الحس فلا يجوز أن يتوهم ما لا يدرك أو يدرك له نظير‏.‏

وأما الإدراك العقلي فليس يحتاج إلى شيء من الحواس بل للعقل نفسه قوة ذاتية بها يدرك الأشياء المعقولة‏.‏

والكلام على هذا الإدراك ألطف وأغمض من الكلام في الإدراك الحسي‏.‏

ولما اختلطت على صاحب المسألة هذه الإدراكات وعلم أن الباري - جلت عظمته - عالم بالأمور الكائنة سمي هذا العلم إدراكاً وظنه من جنس إدراكنا وعلومنا الوهمية فتركبت الشبهة له من الظنون الكاذبة‏.‏

وتحقيق هذه الإدراكات وتمييزها حتى يعلم ما يختص به الحي منا ذو العقل والحس وكيف تكون إدراكاته للأمور الموجودة وتنزيه الباري - جل اسمه - عن جميعها إذ كانت هذه كلها منا انفعالات أعني العلوم والمعارف كلها وأنه لا يجوز أن نعلم شيئاً محسوساً ولا معقولاً بغير انفعال وأن الله تقدس وتعالى ذكره - ليس بمنفعل وإنما يعلم الأشياء بنوع أعلى وأرفع مما نعلمه - أمر صعب يحتاج فيه إلى تقدمة علوم كثيرة‏.‏

وفيما ذكرناه كفاية في إيضاح وجه شبهة لهذا الرجل فيما ذهب إليه‏.‏

  مسألة حدثني عن ولوع الشاعر بالطيف وتشبيبه به واستهتاره بذكره وهكذا تجد أصناف الناس

وهذا معروف عند من عبثت به الصبابة ولحقته الرقة وألفت عينه حلية شخص ومحاسنه وعلق فؤاده هواه وحبه‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ الطيف هو اسم لصورة المحبوب إذا حصلته النفس في قوتها المتخيلة حتى تكون تلك الصورة نصب عينه وتجاه وهمه كلما خلا بنفسه‏.‏

وهذه حال تلحق كل من لهج بشيء فإن صورته ترتسم في قوته هذه التي تسمى المتخيلة وتكون ببطن الدماغ المقدم‏.‏

فإذا تكررت هذه الصورة على المحبوب على هذه القوة انتقشت فيها ولزمها‏.‏

فإذا نام الإنسان أو استيقظ لم تخل من قيام تلك الصورة فيها ويجد المشتاق في النوم خاصة إنسانه لأن النوم يتخيل فيه أشياء مما في نفسه فربما رأى في النوم أنه قد وصل إليه الوصول الذي يهواه فيكون من ذلك الاحتلام واستفراغ المادة التي تحركه إلى الشوق والاجتماع مع المحبوب فيزول عنه أكثر ذلك العارض ويصير سبباً لبرء تام فيما بعد‏.‏

  مسألة ما السبب في ترفع الإنسان عن التنبيه على نفسه بنشر فضله وعرض حاله

وإثبات اسمه وإشاعة نعته وليس بعذ هذا إلا إثبات الخمول‏.‏

والخمول عدم ما وهو إلى النقص ما هو لأن الخامل مجهول والمجهول نقيض المعدوم‏.‏

ولا تبارى في المعدوم ولا تمارى في الموجود‏.‏

وكان منشأ هذه المسألة عن حال هذا وصفها‏:‏ عرض بعض مشايخنا كتاباً له صنفه علينا فلم نجده ذكر على ظهره‏:‏ تأليف فلان ولا تصنيفه ولا ذكر اسمه من وجه الملك‏.‏

فقلنا له‏:‏ ما هذا الرأى‏.‏

فقال‏:‏ هو شيء يعجبني لسر فيه‏.‏

ثم أخرج لنا كتباً قد كتبها في الحداثة فيها اسمه وقال‏:‏ هذا أثر أيام النقص‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن الفضل ينبه على نفسه وليست حاجة إلى تنبيه الإنسان عليه من نفسه‏.‏

وذاك أن الفضائل التي هي بالحقيقة فضائل تشرق إشراق الشمس ولا سبيل إلى إخفائها لو رام صاحبها ذلك‏.‏

وأما الشيء الذي يظن أنه فضيلة وليس كذلك فهو الذي يخفى‏.‏

فإذا تعاطى الإنسان مدح نفسه وإظهار فضيلته بالدعوى تصفحت العقول دعواه فبان عواره وظهر الموضع الذي يغلط فيه من نفسه‏.‏

فإن اتفق أن يكون صادقاً وكانت فيه تلك الفضيلة فإنما يدل بتكلف إظهارها على أنه غير واثق بآراء الناس وتصفحهم أو هو واثق ولكنه يتبجح عليهم ويفخر‏.‏

فأما الإنسان الكبير الهمة فإنه يستقل لنفسه ما يكون فيه من الفضائل لسموه إلى ما هو أكثر منه ولأن المرتبة التي تحصل للإنسان من الفضل وإن كانت عالية فهي نزر يسير بالإضافة إلى ما هو أكثر منه‏.‏

وهو متعرض لطباع الإنسان مبذول له وإنما يمنعه العجز الموكل بطبيعة البشر عن استيعابه وبلوغ أقصاه أو يشغله عنه بنقائص تعوقه عن التماس الغاية القصوى من الفضائل البشرية‏.‏