الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا إِلَى قَوْلِهِ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلًا يُقَالُ رَضِيًّا مَرْضِيًّا عُتِيًّا عَصِيًّا عَتَا يَعْتُو قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيًّا إِلَى قَوْلِهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا وَيُقَالُ صَحِيحًا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَأَوْحَى فَأَشَارَ يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ إِلَى قَوْلِهِ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا حَفِيًّا لَطِيفًا عَاقِرًا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ الشرح: قوله: (باب قول الله تعالى: ذكر رحمة ربك عبده زكريا - إلى قوله - لم نجعل له من قبل سميا) في زكريا أربع لغات: المد والقصر وحذف الألف مع تخفيف الياء وفيه تشديدها أيضا وحذفها. وقال الجوهري: لا يصرف مع المد والقصر. قوله: (قال ابن عباس: مثلا) وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: قوله: (يقال رضيا مرضيا) حكاه الطبري قال: مرضيا ترضاه أنت وعبادك. قوله: (عتيا عصيا، عتا يعتو) كذا فيه بالصاد المهملة والصواب بالسين، وروى الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: " ما أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عتيا أو عسيا " وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: قوله: (ثلاث ليال سويا ويقال صحيحا) هو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أخرجه ابن أبي حاتم عنه قال في قوله: وأخرج من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال: اعتقل لسانه من غير مرض. قوله: (فأوحى: فأشار) هو قول محمد بن كعب ومجاهد وغير واحد أخرجه ابن أبي حاتم عنهم. قوله: (حفيا: لطيفا) هو قول ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه. وقال أبو عبيدة في قوله: قوله: (عاقرا الذكر والأنثى سواء) قال أبو عبيدة العاقر التي لا تلد، والعاقر الذي لا يلد، قال عامر بن الطفيل: لبئس الفتى إن كان أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر وقال أيضا: لفظ الذكر فيه مثل لفظ الأنثى. قال الثعلبي. ولد يحيى وعمر زكريا مائة وعشرون سنة وقيل تسعين وقيل اثنين وتسعين وقيل مائة إلا سنتين وقيل إلا سنة. الحديث: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ قَالَ هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قَالَا مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ الشرح: أورد المصنف طرفا من حديث الإسراء من رواية أنس عن مالك بن صعصعة والغرض منه ذكر يحيى بن زكريا. وقال فيه وفي عيسى ابن مريم إنهما ابنا خالة وزكريا هو ابن أدن ويقال ابن شبوي ويقال ابن بارخيا ويقال ابن أبي ابن بارخيا، ومريم بنت عمران بن ناشي، وهما من ذرية سليمان بن داود عليهما السلام، واسم أم مريم حنة بمهملة ونون بنت فاقود واسم أختها والدة يحيى إيشاع قال ابن إسحاق في " المبتدأ " كانت حنة عند عمران وأختها عند زكريا وكانت حنة أمسك عنها الولد ثم حملت بمريم فمات عمران وهي حامل. وروى ابن أبي حاتم من طريق عبد الرحمن بن القاسم: سمعت مالك بن أنس يقول: بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا كان حملهما جميعا، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك، قال مالك: أراه لفضل عيسى على يحيى. وقال الثعلبي: ولد يحيى قبل عيسى بستة أشهر. واختلف في قوله: وقال أيضا: أراد بنو إسرائيل قتل زكريا ففر منهم، فمر بشجرة فانفلقت له فدخل فيها فالتأمت عليه، فأخذ الشيطان بهدبة ثوبه فرأوها فوضعوا المنشار على الشجرة فنشروها حتى قطعوه من وسطه في جوفها. وأما يحيى فقتل بسبب امرأة أراد ملكهم أن يتزوجها، فقال له يحيى: إنها لا تحل لك لكونها كانت بنت امرأته، فتوصلت إلى الملك حتى قتل يحيى، قال ابن إسحاق: كان ذلك قبل أن يرفع عيسى. وروى أصل هذه القصة الحاكم في " المستدرك " من حديث عبد الله بن الزبير، وروى أيضا من حديث ابن عباس أن دم يحيى كان يفور حتى قتل عليه بختنصر من بني إسرائيل سبعين ألفا فسكن. *3* إِذْ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ إِلَى قَوْلِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَآلُ عِمْرَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ وَآلِ يَاسِينَ وَآلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَيُقَالُ آلُ يَعْقُوبَ أَهْلُ يَعْقُوبَ فَإِذَا صَغَّرُوا آلَ ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الْأَصْلِ قَالُوا أُهَيْلٌ الشرح: قوله: (باب قول الله تعالى: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) وقوله: ومريم بالسريانية الخادم، وسميت به والدة عيسى فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية، ويقال إن مريم بلسان العرب من تكثر من زيارة الرجال من النساء كالزير وهو من يكثر زيارة النساء، واستشهد من زعم هذا بقول رؤبة " قلت لزير لم تصله مريمه " حكاه أبو حبان في تفسير سورة البقرة، وفيه نظر. قوله: (قال ابن عباس: وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد صلى الله عليه وسلم يقول: إن أولى الناس بإبراهيم الذين اتبعوه، وهم المؤمنون) وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وحاصله أن المراد بالاصطفاء بعض آل عمران وإن كان اللفظ عاما فالمراد به الخصوص. قوله: (ويقال آل يعقوب أهل يعقوب، إذا صغروا آل ردوه إلى الأصل قالوا أهيل) اختلف في " آل " فقيل أصله أهل فقلبت الهاء همزة بدليل ظهور ذلك في التصغير وهو يرد الأشياء إلى أصلها، وهذا قول سيبويه والجمهور، وقيل: أصله أول من آل يئول إذا رجع لأن الإنسان يرجع إلى أهله، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، وتصغيره على أويل. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ الشرح: قوله: (عن الزهري قال حدثني سعيد بن المسيب) كذا قال أكثر أصحاب الزهري. وقال السدي: عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أخرجه الطبري. قوله: (ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد) في رواية سعد بن المسيب عن أبي هريرة الماضية في " باب صفة إبليس " بيان المس المذكور لفظه " كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد، غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب " أي في المشيمة التي فيها الولد قال القرطبي: هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط، فحفظ الله مريم وابنها منه ببركة دعوة أمها حيث قالت: ووقع في رواية معمر عن الزهري عند مسلم " إلا نخسه الشيطان " بنون وخاء معجمة ثم مهملة. قوله: (فيستهل صارخا من مس الشيطان) في رواية معمر المذكورة " من نخسة الشيطان " أي سبب صراخ الصبي أول ما يولد الألم من مس الشيطان إياه، والاستهلال الصياح. قوله: (غير مريم وابنها) تقدم في " باب إبليس " بذكر عيسى خاصة فيحتمل أن يكون هذا بالنسبة إلى المس وذاك بالنسبة إلى الطعن في الجنب، ويحتمل أن يكون ذاك قبل الإعلام بما زاد، وفيه بعد لأنه حديث واحد، وقد رواه خلاس عن أبي هريرة بلفظ " كل بني آدم قد طعن الشيطان فيه حين ولد، غير عيسى وأمه جعل الله دون الطعنة حجابا فأصاب الحجاب ولم يصبهما " والذي يظهر أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، والزيادة من الحافظ مقبولة، وأما قول بعضهم يحتمل أن يكون من العطف التفسيري والمقصود الابن كقولك أعجبني زيد وكرمه فهو تعسف شديد. قوله: (ثم يقول أبو هريرة: وإني أعيذها بك إلخ) فيه بيان لأن في رواية أبي صالح عن أبي هريرة إدراجا وأن تلاوة الآية موقوفة على أبي هريرة. *3* يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ يُقَالُ يَكْفُلُ يَضُمُّ كَفَلَهَا ضَمَّهَا مُخَفَّفَةً لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ وَشِبْهِهَا الشرح: قوله: (باب وإذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله اصطفاك - الآية إلى قوله - أيهم يكفل مريم، يقال يكفل يضم كفلها ضمها مخففة، ليس من كفالة الديون وشبهها) أشار بقوله: " مخففة " إلى قراءة الجمهور، وقرأها الكوفيون " كفلها " بالتشديد أي كفلها الله زكريا، وفي قراءتهم زكريا بالقصر إلا أن أبا بكر بن عياش قرأه بالمد فاحتاج إلى أن يقرأ زكرياء بفتح الهمزة. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: (وكفلها زكريا) يقال كفلها بفتح الفاء وكسرها أي ضمها. وفي قوله: وكسر الفاء هو في قراءة بعض التابعين. واستدل بقوله تعالى: وقد نقل عن الأشعري أن في النساء عدة نبيات، وحصرهن ابن حزم في ست، حواء وسارة وهاجر وأم موسى وآسية ومريم. وأسقط القرطبي سارة وهاجر، ونقله في " التمهيد " عن أكثر الفقهاء. وقال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية. وقال عياض: الجمهور على خلافه. ونقل النووي في " الأذكار " أن الإمام نقل الإجماع على أن مريم ليست نبية. وعن الحسن: ليس في النساء نبية ولا في الجن. وقال السبكي الكبير: لم يصح عندي في هذه المسألة شيء، ونقله السهيلي في آخر " الروض " عن أكثر الفقهاء. الحديث: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ الشرح: قوله: (حدثنا النضر) هو ابن شميل، وهشام هو ابن عروة بن الزبير، وعبد الله بن جعفر أي ابن أبي طالب. قال الدار قطني: رواه أصحاب هشام بن عروة عنه هكذا؛ وخالفهم ابن جريج وابن إسحاق فروياه عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن جعفر زاد في الإسناد عبد الله بن الزبير، والصواب إسقاطه، والله أعلم. قوله: (خير نسائها مريم) أي نساء أهل الدنيا في زمانها، وليس المراد أن مريم خير نسائها لأنه يصير كقولهم زيد أفضل إخوانه، وقد صرحوا بمنعه، فهو كما لو قيل فلان أفضل الدنيا. وقد رواه النسائي من حديث ابن عباس بلفظ " أفضل نساء أهل الجنة " فعلى هذا فالمعنى خير نساء أهل الجنة مريم. وفي رواية " خير نساء العالمين " وهو كقوله تعالى: وأما من قال ليست بنبية فيحمله على عالمي زمانها، وبالأول جزم الزجاج وجماعة واختاره القرطبي؛ ويحتمل أيضا أن يراد نساء بن إسرائيل أو نساء تلك الأمة أو " من " فيه مضمرة والمعنى أنها من جملة النساء الفاضلات، ويدفع ذلك حديث أبي موسى المتقدم بصيغة الحصر أنه لم يكمل من النساء غيرها وغير آسية. قوله: (وخير نسائها خديجة) أي نساء هذه الأمة قال القاضي أبو بكر بن العربي: خديجة أفضل نساء الأمة مطلقا لهذا الحديث، وقد تقدم في آخر قصة موسى حديث أبي موسى في ذكر مريم وآسية وهو يقتضي فضلهما على غيرهما من النساء، ودل هذا الحديث على أن مريم أفضل من آسية وأن خديجة أفضل نساء هذه الأمة، وكأنه لم يتعرض في الحديث الأول لنساء هذه الأمة حيث قال: ولم يكمل من النساء، أي من نساء الأمة الماضية، إلا إن حملنا الكمال على النبوة فيكون على إطلاقه. وعند النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس " أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية " وعند الترمذي بإسناد صحيح عن أنس " حسبك من نساء العالمين " فذكرهن. وللحاكم من حديث حذيفة " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملك فبشره أن فاطمة سيده نساء أهل الجنة " وسيأتي مزيد لذلك في ترجمة خديجة من مناقب الصحابة. *3* إِلَى قَوْلِهِ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يُبَشِّرُكِ وَ يَبْشُرُكِ وَاحِدٌ وَجِيهًا شَرِيفًا وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ المَسِيحُ الصِّدِّيقُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْكَهْلُ الْحَلِيمُ وَالْأَكْمَهُ مَنْ يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَقَالَ غَيْرُهُ مَنْ يُولَدُ أَعْمَى الشرح: قوله: (باب قول الله تعالى: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم) وقع في رواية أبي ذر بزيادة واو في أول هذه الآية وهو غلط، وإنما وقعت الواو في أول الآية التي قبلها وأما هذه فبغير واو. قوله: (يبشرك ويبشرك واحد) يعني بفتح أوله وسكون الموحدة وضم المعجمة، وبضم أوله وفتح الموحدة وتشديد المعجمة، والأولى وهي بالتخفيف قراءة يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي، والبشير هو الذي يخبر المرء بما يسره من خير، وقد يطلق في الشر مجازا. قوله: (وجيها) أي (شريفا) قال أبو عبيدة: الوجيه الذي يشرف وتوجهه الملوك أي تشرفه، وانتصب قوله: " وجيها على الحال. قوله: (وقال إبراهيم: المسيح الصديق) وصله سفيان الثوري في تفسيره رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عنه عن منصور عن إبراهيم هو النخعي قال: المسيح الصديق. قال الطبري: مراد إبراهيم بذلك أن الله مسحه فطهره من الذنوب، فهو فعيل بمعنى مفعول. قلت: وهذا بخلاف تسمية الدجال المسيح فإنه فعيل بمعنى فاعل يقال إنه سمي بذلك لكونه يمسح الأرض وقيل: سمي بذلك لأنه ممسوح العين فهو بمعنى مفعول، قيل في المسيح عيسى أيضا أنه مشتق من مسح الأرض لأنه لم يكن يستقر في مكان، ويقال سمي بذلك لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا بريء، وقيل: لأنه مسح بدهن البركة مسحه زكريا وقيل: يحيى، وقيل: لأنه كان ممسوح الأخمصين، وقيل: لأنه كان جميلا يقال: مسحه الله أي خلقه خلقا حسنا ومنه قولهم به مسحة من جمال. وأغرب الداودي فقال لأنه كان يلبس المسوح. قوله: (وقال مجاهد: الكهل الحليم) وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: والذي يظهر أن مجاهدا فسره بلازمه الغالب، لأن الكهل غالبا يكون فيه وقار وسكينة، وقد اختلف أهل العربية في قوله: (وكهلا) هل هو معطوف على قوله: (وجيها) أو هو حال من الضمير في يكلم أي يكلمهم صغيرا وكهلا، وعلى الأول يتجه تفسير مجاهد. قوله: (الأكمه من يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل. وقال غيره من يولد أعمى) أما قول مجاهد فوصله الفريابي أيضا، وهو قول شاذ تفرد به مجاهد، والمعروف أن ذلك هو الأعشى. وأما قول غيره فهو قول الجمهور وبه جزم أبو عبيدة وأخرجه الطبري عن ابن عباس، وروى عبد بن حميد من طريق سعيد عن قتادة: كنا نتحدث أن الأكمه الذي يولد وهو مضموم العين. ومن طريق عكرمة: الأكمه الأعمى. وكذا رواه الطبري عن السدي، وعن ابن عباس أيضا، وعن الحسن ونحوهم، قال الطبري: الأشبه بتفسير الآية قول قتادة، لأن علاج مثل ذلك لا يدعيه أحد، والآية سيقت لبيان معجزة عيسى عليه السلام، فالأشبه أن يحمل المراد عليها ويكون أبلغ في إثبات المعجزة والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ أَحْنَاهُ عَلَى طِفْلٍ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ تَابَعَهُ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ الشرح: حديث أبي موسى الأشعري في فضل مريم وآسية، وقد تقدم شرحه في آخر قصة موسى عليه السلام. وحديث أبي هريرة في فضل نساء قريش. قوله: (وقال ابن وهب إلخ) وصله مسلم عن حرملة عن ابن وهب، وكذلك أخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن حرملة، وسيأتي للمصنف موصولا من وجه آخر عن ابن وهب في النكاح، قال القرطبي: هذا تفضيل لنساء قريش على نساء العرب خاصة، لأنهم أصحاب الإبل غالبا، وسيأتي بقية شرحه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: (أحناه) أشفقه، حنى يحنو ويحنى من الثلاثي، وأحنى يحني من الرباعي: أشفق عليه وعطف، والحانية التي تقوم بولدها بعد موت الأب، قال: وحنت المرأة على ولدها إذا لم تتزوج بعد موت الأب. قال ابن التين: فإن تزوجت فليست بحانية. قال الحسن في الحانية التي لها ولد ولا تتزوج. وفي بعض الكتب: أحنى بتشديد النون والتنوين حكاه ابن التين وقال: لعله مأخوذ من الحنان بفتح وتخفيف وهو الرحمة، وحنت المرأة إلى ولدها وإلى زوجها سواء كان بصوت أم لا، ومن الذي بالصوت حنين الجذع وأصله ترجيع صوت الناقة على أثر ولدها، وكان القياس أحناهن لكن جرى لسان العرب بالإفراد، وقوله: " ولم تركب مريم بعيرا قط " إشارة إلى أن مريم لم تدخل في هذا التفضيل بل هو خاص بمن يركب الإبل، والفضل الوارد في خديجة وفاطمة وعائشة هو بالنسبة إلى جميع النساء إلا من قيل إنها نبية، فإن ثبت في حق امرأة أنها نبية فهي خارجة بالشرع لأن درجة النبوة لا شيء بعدها، وإن لم يثبت فيحتاج من يخرجهن إلى دليل خاص لكل منهن، فأشار أبو هريرة إلى أن مريم لم تدخل في هذا العموم، لأنه قيد أصل الفضل بمن يركب الإبل ومريم لم تركب بعيرا قط. وقد اعترض بعضهم فقال: كأن أبا هريرة ظن أن البعير لا يكون إلا من الإبل، وليس كما ظن بل يطلق البعير على الحمار. وقال ابن خالويه: لم تكن إخوة يوسف ركبانا إلا على أحمرة، ولم يكن عندهم إبل، وإنما كانت تحملهم في أسفارهم وغيرها الأحمرة، وكذا قال مجاهد هنا: البعير الحمار، وهي لغة حكاها الكواشي، واستدل بقوله: وجزم ابن حزم بست: حواء وسارة وهاجر وأم موسى وآسية ومريم، ولم يذكر القرطبي سارة ولا هاجر، ونقله السهيلي في آخر " الروض " عن أكثر الفقهاء. وقال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية. وقال عياض: الجمهور على خلافه. وذكر النووي في " الأذكار " عن إمام الحرمين أنه نقل الإجماع على أن مريم ليست نبية، ونسبه في " شرح المهذب " لجماعة، وجاء عن الحسن البصري ليس في النساء نبية ولا في الجن. وقال السبكي: اختلف في هذه المسألة ولم يصح عندي في ذلك شيء. قوله: (يقول أبو هريرة على أثر ذلك: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط) في رواية لأحمد وأبي يعلى " وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مريم لم تركب بعيرا قط " أراد أبو هريرة بذلك أن مريم لم تدخل في النساء المذكورات بالخيرية لأنه قيدهن بركوب الإبل ومريم لم تكن ممن يركب الإبل، وكأنه كان يرى أنها أفضل النساء مطلقا. قوله: (تابعه ابن أخي الزهري وإسحاق الكلبي عن الزهري) أما متابعة ابن أخي الزهري وهو محمد بن عبد الله بن مسلم فوصلها أبو أحمد بن عدي في الكامل من طريق الدراوردي عنه، وأما متابعة إسحاق الكلبي فوصلها الزهري في " الزهريات " عن يحيى بن صالح عنه.
|